الطالب البائس
كنت في حديث مع مدير المدرسة حول جهود معلميه في تدريس الصفوف الأولية , أثنى المدير على معلميه خيرا , سألته عن مستوى الأمن النفسي الذي يمنحه المعلمون لطلابهم , أكد انه مرتفع وأن الحس الإنساني لدى معلميه عال وقام يدلل على بعض المواقف التي لا تخلو من سلوك كريم , استأذنته في الاجتماع بالمعلمين , قابلتهم وكان الحوار عن الأمن الذي يجب أن نمنحه لطلابنا , كنت أردد عليهم قوله تعالى ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) كنت أقول لهم : يا أحبتي قبل أن تشير بأصبعك نحو طالب تصفه فيها امام زملائه بأنه ضعيف ونقص في الفهم تأكد أنك تهدمه وتمسخ كل جمال في نفسه , تأكد أنك تتفنن في طمس كل معاني الإنسانية في ذاته , قلت لهم : إن دورنا أن نبعث الحياة من جديد في نفوس طلابنا , أن نساعدهم ليتعرفوا على قدراتهم وطاقاتهم , أن نأخذ بأيديهم مرات ومرات , إننا لم نأت لنثبت فشلهم ونسعى لنعرف الآخرين به مديرا ووكيلا ومعلمين وولي أمر , بل أن نقول له : ياصغيري لا تقلق ما لا تعرفه اليوم سأساعدك لتعرفه غدا ....سألتهم بالله أن يعاملوا طلابهم كما يحبون أن يعامل أبناؤهم ...وعدتهم بزيارتهم في فصولهم المرة القادمة , يسر الله لي زيارة المدرسة مرة أخرى فدخلت على أحدهم فوجدته أبا لطلابه رحيما بهم مشفقا عليهم , لين العريكة طيب اللفظ واللحظ , شكرته بعد الزيارة داعيا الله أن يكثر من أمثاله , انتقلت لجاره طرقت الباب , أذن المعلم لي فسلمت عليه وطلابه وتوسطت الاصف أبحث عن مكان أجلس فيه بادرني بشكوى وضيق , قال لي: مع كل ما أبذله مع بعض الطلاب إلا أن البيت لا يؤدي دوره بشكل جيد , دعني يا أستاذ أريك بعض الطلاب الذين قدمت لهم الكثير لكن للأسف لا أجد تجاوبا من البيت , قاطعته قائلا : طيب دعنا نقف على بعض الجوانب المشرقة والكثيرة لديك أنت وطلابك , وسنتناقش في فرص التحسين خارج الصف , جعل بعض الطلاب يقرؤون , ثم يأتي لي هامسا : هذا الطالب تعبت معه , للمرة الثالثة يعيد , قلت : أستاذ الله يحفظك أريد أن أرى بعض الأشياء الجميلة أولا , رجع يكرر الشكوى , أدركت أنني أنفخ في رماد , قلت : أستأذنك في مناقشة الطلاب والحديث معهم , سألت طلابه فوجدت فيهم من تأسف على أن كان قدره أن يكون هذا معلمه , أخرجت الطلاب فوجدت منهم المتميز والمتوسط والضعيف , كنت أحثهم على المشاركة والتفاعل وكنت أتجاهل نداءات المعلم لي بإخراج أحد الطلاب الكبار حتى أتعرف على تقصيره وضعف متابعة المنزل , التقت عيناي بعيني الطالب الكبير يبدو أنه في الثانية عشرة من عمره ومازال في الصف الثالث الابتدائي , أكثر من إلحاحه أن أخرجه , طلبت منه أن يعطيني فرصة لمناقشة الطلاب , قال لي : يا أستاذ أرغب أن ترى مستواه !! أخرجته مضطرا بعد أن أخذت على المعلم عهدا ألا يقوم من كرسيه وأن يتركني أناقش الطلاب , مازحت الطالب الكبير , قال المعلم : هذا يا أستاذ حاولت معه بكل الطرق لكن لا فائدة , قلت للمعلم : أرجوك يا أستاذ دعني وصاحبي ...طلبت منه أن يكتب كلمة ( من ) قام الطالب يفكر , قلت له : مكونة من حرفين ميم ونون ...شعرت من نظرات الطالب أنه مدمر الهوية مزعزع الثقة لا يستطيع أن يكتب اسمه , قام يفكر ويحاول ساعدته حتى كتبها طلبت من المعلم والطلاب أن نصفق له جميعا , قام يبتسم ابتسامة الخائف , يبدو أنه التعزيز الأول الذي يتعرض له هذا الطالب , لم يصبر المعلم قام من كرسيه يطلب مني أن أعطيه كلمة صعبة أو كما يقول كلمة فيها همزة , طلبت منه أن يخرج معي خارج الصف , هناك رجوته أن يدعني مع الطالب ويكتفي بالمراقبة والملاحظة , عدنا للصف , قمت أنتقي بعض الكلمات السهلة وأطلب من الطالب كتابتها ومع كل كلمة يكتبها تزداد ثقته بنفسه , عاد المعلم يجدد طلبه بأن أعطيه بعض الكلمات التي ستكشف حقيقته , جددت رجائي للمعلم أن يدعني مع الطالب ويجلس في مكانه , كان مصرا على أن يثبت عجز الطالب وفشله , والمحزن أن الطالب يفهم رسالته ويفهم تحطيمه , العجيب أن لغة جسد الطالب وتعابير وجهه كانت أقدر على التعبير عما في نفسه , شعرت بتعب شديد وضيق من هذا المعلم البشع , قلت له : أما أن تتركني أواصل ما أريد أو أن أخرج , قال : يا أستاذ أردت أن أعرفك بمستوى هذا الطالب الضعيف المقصر والمهمل , صددت عنه وودعت الصغار واستأذنته في الخروج , لحقني بعد خروجي مباشرة وهو يسأل عن رؤيتي لجهوده , قلت له : أقول لك رأيي من غير أن تزعل , قال : أبدا يا أستاذ لن أزعل : قلت تعدني , قال : نعم , قلت : أنت أسوأ معلم مر علي , والله أنك تظلم نفسك وطلابك أن رضيت أن تكون معلما !! يا أخي اتق الله أحاول انتشال الطالب من فشله الذي أشك أن يكون هو المتسبب فيه وأنت مصر على اثبات عجزه وتقصيره !! قال : كنت أريد أن أعرفك بأنه طالب ضعيف , قلت : وجسمه الكبير بين الصغار ألا يكشف ضعفه !! تردده وعجزه عن كتابة بعض الكلمات السهلة ألا يكشف ضعفه !! تأكيدك البغيض لي منذ اللحظة الأولى عن واقعه ألا يكشف لي ضعفه , أقسم بالله أن مكوثه في بيته نائما عاطلا خير له من عذاب يتجرعه كل يوم وليته يجد مقابل عذابه ماينفعه !! ليت لي أن أكشف صدره لأريك بغضه لك ولكل كلمة ونظرة تسحقه بها ....تركته وذهبت للإدارة , لحقني يريد توضيح الصورة , قلت : له أرجوك لا أستطيع الحديث معك قبل الحصة الخامسة , أكملت زياراتي للمعلمين وكانوا على حال مرض , بعد الخامسة جاءني وجلس بجانبي قائلا : يا أستاذ أنا لا أريد تدريس الصف الثالث وسأطلب من المدير أن يكلفني بتدريس الصفوف العليا , قلت : لماذا ؟ قال : يا أستاذ أنت حطمتني وجعلتني معلما فاشلا ولا أصلح للتدريس , قلت : أسألك بالله كيف كانت نفسيتك خلال الساعتين السابقتين , قال : في الحضيض , قلت : بكل صراحة حشيت فيني في غرفة المعلمين , قال : بصراحة نعم , قلت : انظر تطلب ترك التدريس في الصفوف الأولية ولم تتورع عن غيبتي وكل ذلك لأجل كلمات صدرت مني وقت انفعال ومرة واحدة فقط , مارأيك ياعزيزي فيما تفعله بطلابك كل يوم وخاصة هذا الطالب البائس ألم تستشعر مدى الآلام التي تملأ نفسه بها , ألم تستشعر قسوة نظرات زملائه له وكلماتهم في الفسحة وغيرها بأنه غبي بليد !! ياعزيزي ضاقت نفسك من كأس تجرعت منه قطرات وتدفعه في حلق هذا الصبي دفعا , قال : قبل أن أترك تدريس الصفوف الأولية ما رأيك في تدريسي ؟ قلت : تمتلك مهارات جيدة في بعض الجوانب لا يمتلكها الكثير من المعلمين وقد ظهر ذلك في بعض قراءة طلابك , قال : كيف نجمع بين كوني أسوأ معلم وأن لدي جوانب رائعة ؟ قلت : لا تعارض ...تعاملك اللانساني لايلغي تميزك في بعض الجوانب لكن ياعزيزي تذكر أن بناء الطالب علميا على حساب كرامته وهدم إنسانيته لا قيمة له , كم ستكون رائعا لو تحديت مع نفسك في أن تقدم كل ما لديك لهذا الطالب من غير أن تجرحه وتؤذيه , أعد له الشرح مرات ومرات من غير يأس أو تضجر , قلت : عموما أنا أعتذر لك عما بدر مني تجاهك لكن أردت أن تعيش نفس الحال الذي يعيشه طالبك كل يوم , قال : والله يا أستاذ أنني خجل من نفسي وأشعر بذنب عظيم تجاه هذا الطالب , قلت : هو بين يديك رمم جراحه , ابعث فيه الحياة من جديد , تذكر تلك الآية العظيمة وكل كلام الله عظيم ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) ودعته وطلب مني أن أزوره مرة أخرى ليريني مايسعدني .