التميز المزور
عند توزيع المدارس على المشرفين وجدت أن أكثر المشرفين بل كلهم لا يرغب في مدرسة معينة , سألتهم فلم أنل منهم إجابة شافية سوى أن المدير غير متعاون , لم أجد أن هذا السبب كان كافيا لعدم الرغبة فيها , قررت أن تكون هذه المدرسة من نصيبي , زرت المدرسة وجدت ترحيبا منقطع النظير من مديرها , دار بيني وبينه حوار وجدته على درجة كبيرة من الثقافة والوعي , قلت في نفسي أستغرب من زملائي أن يفرطوا في مثل هذا المكسب الكبير مما لا شك أن وقعت على كنز ثمين ...أطلعني المدير على شهادات الشكر والتقدير التي نالتها المدرسة بشكل عام , وماحصل عليه المدير بشكل خاص , أطلعني على عبارات الشكر التي دجلها ,عفوا أقصد دبجها الزائرون في حقه وحق مدرسته , قلت له : يكفي مارأيته هذا اليوم وسأنقل للمسئولين واقع هذه المدرسة المشرف , استأذنته وغادرت المدرسة مبتهجا سعيدا بها وبمديرها ....قمت بالثناء عليها عند زملائي لكن لفت نظري أن كلامي عنها وعن مديرها لم يقع في نفوسهم موقعا حسنا مما زاد استغرابي وحيرتي , أدركت أنني أمام لغز يحتاج قبل التفكير في حله إلى تفكيكه وتفتيته ....تاقت نفسي لزيارة المدرسة سريعا رغبة في اكتشاف أسرارهذه المدرسة خاصة السر الأكبر وهو إحجام المشرفين عنها , وصلت إلى المدرسة مبكرا , وجدت المدير في مكتبه سلمت عليه بحرارة بادلني الحرارة نفسها , استأذنته في حضور الطابور حاول أن أستريح قليلا استجبت لطلبه , كررت له رغبتي في حضور الطابور من بدايته , خرجنا للطابور , دققت النظر فيه وجدته شبه مضطرب , وصلنا للطابور ( يسمونه الآن الاصطفاف الصباحي ) لم أجد سوى عدد قليل من المعلمين وعدد كبير من الطلاب ملأ المكان فوضى وصخبا , عرفت الآن سر ارتباك المدير , سألته عن معلم الرياضة قال إنه سيأتي , المهم كان الطابور مثالا معبرا عن التسيب والاستهتار والفوضى , بعد نهاية الطابور ونحن في الممر قام يطلعني على بعض صور الإنجازات التي حققتها المدرسة , لم تجد تلك الانجازات قبولا في نفسي كما وجدت في اللقاء السابق , عدنا للإدارة طلبت منه أن يأتي لي بدفتر الحضور وجدت أن المعلمين الذين قد وصلوا للمدرسة يقارب النصف , سألته عن النصف الآخر قال : حالا سيأتون , قلت : له هل تشكو أستاذ من تأخر المعلمين ؟ رد سريعا : أبدا معلمو المدرسة من أفضل معلمي المدارس انتظاما في الحضور , قلت : إذا تأخرهم اليوم عارض وليس بشكل متكرر , قال بسرعة : نعم نعم ....طلبت منه أن يتكرم بارسال من يجمع دفاتر التحضير , طلب من الوكيل أن يجمع الدفاتر , بعد نصف ساعة جاء الوكيل يحمل بين يديه دفترين , قلت للوكيل : أنا طلبت دفاتر جميع معلمي الصفوف الأولية في المدرسة وعددهم اثنا عشر معلما , قال : والله يا أستاذ هذا الموجود , التفت إلي المدير قائلا : ستأتي جميع الدفاتر بعد قليل , ثم التفت للوكيل يحثه على إحضار باقي الدفاتر , خرج الوكيل , قلت للمدير : هل تعاني من تكاسل معلمي الصفوف الأولية في الالتزام بالتحضير للدروس رد بسرعة كرده السابق : أبد يا أستاذ معلمونا من أحسن المعلمين التزاما في ذلك ,شعرت أننا أدخلت نفسي في نفق مظلم مع هذه المدرسة وأنها ستأخذ من اهتمامي ووقتي الكثير خاصة أن الأمر يزداد صعوبة في أن قائد المدرسة لا يعترف بوجود مشكلة وهذا في حد ذاته مشكلة المشاكل , لكن حب التجربة واستعمار التحدي لنفسي جعلني أصرف التفكير إلى المواصلة حتى النهاية , نظرت في الدفترين اللذين حضرا فوجدتهما مجرد أوراق متلاصقة وكتابات متناثرة تكشف بؤسا قادما , قلت : أستاذ جزما لديك سجل يكشف مدى انتظام المعلمين في التحضير , قال : أكيد , وأخرج لي سجل فوجدت جميع المعلمين قد وضع لهم علامات تدل على انتظامهم من غير أن يتخلف أحد , قلت : له طيب يا أستاذ ماذا تفسر تخلف عشر معلمين عن التحضير هذا اليوم , قال : حتى أنا مستغرب , قلت : طيب أنا أستأذنك سأضطر لتغيير خطة زيارتي وأذهب لمدرسة أخرى , وسأضطر آسفا لكتابة سبب تغيير خطة زيارتي لمدير مركز الإشراف , قال : على راحتك ....عدت للمدرسة بعد أسبوع لم تكن حرارة السلام من مدير المدرسة حاضرة , تجاذبنا بعض الأحاديث الجانبية , كررت الطلب البغيض دفاتر التحضير , قام بنفسه يجمعها جاء بثلاثة , قلت : أستاذي العزيز تأكد لي الآن أن ثمة مشكلة , رد بلهجة تتنفس ضيقا : أبدا يا أستاذ ليس لدينا مشاكل ولله الحمد , قلت : أستاذ هل وجود المشكلات في مؤسسة ما دليل على الفشل ,قال : لا , قلت : طيب ألا ترى أن غياب دفاتر التحضير للمرة الثالثة يدل على أن هناك مشكلة , قام يتمتم بكلمات يذكر لي فيها من أثنوا عليه خيرا ابتداء من مدير التعليم وغيره من القيادات , قلت : طيب يا أستاذ أنا مضطر للمرة الأخيرة في مغادرة المدرسة وتغيير خطتي وسأطلب من مشرف الإدارة المدرسية المشرف على المدرسة أن يكون حاضرا ليكون لنا عونا في حل هذه المشكلة , لكن قبل أن أغادر أرجو أن تقترح علي يوما تكون فيه الدفاتر جاهزة , قال : لو تبغاها الآن هي جاهزة , قلت : أرجوك يا أستاذ كما أحفظ لك التقدير والاحترام أن تبادلني السلوك نفسه بل أهم من ذلك أن تحترم عقلي , إذا كنت تقول أنها جاهزة فأنا ذا في انتظارها , لكن الأفضل أن تختار يوما ولو بعد شهر المهم أن تكون جميع الدفاتر حاضرة أو أن تقول أن المعلمين مقصرون في ذلك , ونبدأ أنا وإياك نبحث عن علاج لتلك المشكلة : فكر قليلا ثم قال : يوم الاثنين القادم إن شاء الله . قلت : على بركة الله .....جاء الاثنين المبارك , وجدت تأخر المعلمين كما هو والطابور يئن من الفوضى , بمجرد ماعدت من الطابور معه حتى قال : أستاذ أرغب في مصارحتك ونصحك , قلت : تفضل , قال : أشعر أنك تشك في المعلمين !!! قلت : أي معلمين أخشى أن تكون تقصد معلمي المدرسة الذين لم أشاهدهم بعد , قال : يا أستاذ أعلم أنك مشرف متحمس ونشيط لكن صدقني يا أستاذ ستنفر منك المدارس لو استمريت على هذا النشاط , قلت : أسألك أولا هل تم ما اتفقنا عليه , قال : هذا أمر سهل , قلت : أستاذ أشكر لك نصيحتك ولا حرمك الله أجرها , لكن أطلب منك استشارة لو كنت مكاني بعد هذه الزيارات ما الذي تفعل , دعني أعترف لك بفشلي في العمل معك , يبدو أن نقص خبرتي لم يسعفني في تحقيق شيئا لهذه المدرسة , كما أعلنت التحدي في الإشراف على المدرسة أعلن أيضا فشلي , أعدك يا أستاذ أن تكون هذه هي الزيارة الأخيرة , لكنني أستأذنك في كتابة تقرير عنك لن أتكلم فيه عن تأخر المعلمين ولا عن الطابور الهزيل ولا عن دفاتر التحضير الغائبة ولا عن الفوضى التي تسود المدرسة ولا عن السجلات التي تنطق بخلاف الواقع , سأتكلم عنك وعنك فقط سأقول إنك تحتاج إلى من يقنعك أن الأخطاء توجد في كل مدرسة وأن العيب ليس في الاعتراف بها لكن العيب وكل العيب أن نغطيها بل ونوهم الآخرين بعدم وجودها ....ياعزيزي إن عشر دقائق يمكثها الزائر في المدرسة يستطيع أن يعرف مدى صدق شهادات التكريم من عدمه ....ياعزيزي تذكر أن تقود مدرسة كبيرة كلهم خصوم لك يوم القيامة لو منعت عنهم من قد ينفعهم , ياعزيزي سيأتيك زميل آخر لكن أرجوك اجلس معه وحاول أن تعالج معه كل القصور , قدمت تقريري للمسئولين , قلت لهم لا أستطيع العمل معه لكونه سيكون جزءا في كل مشكلة لا جزءا في حلها . قابلته بعد سنوات عاتبني لعدم زيارته , قلت : لا أريد خسارتك ,قال : يا أستاذ حقي عليك زيارتي حتى تثبت لي صفاء قلبك تجاهي , زرته و تعانقنا , وزال مافي نفسي ونفسه .