المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دعوة لإستشراف المستقبل


عبدالله 14
21-01-2008, 06:36 PM
لدى الإنسان خوف فطري من المستقبل المجهول. لذا لجأ إلى وسائل مختلفة لاستشراف هذا المستقبل والعمل على توجيهه لصالحه وللتأثير عليه.

والموضوع هنا لا علاقة له بالقدر والجبر أو حرية الخيار والقرار، إنما بالموقف الايجابي الذي يجب أن نتبناه، والقائم على فكرة أساسية هي أن المستقبل ليس هذا الشيء المقرر سلفاً والمفروض علينا والذي يتكشف لنا شيئاً فشيئاً، لكنه شيء يجب بناءه وتنفيذه.

واستشراف المستقبل يعني تعريفاً: "مجموعة البحوث المتعلقة بالتطور المستقبلي للبشرية مما يسمح باستخلاص عناصر تنبؤية."

وخلال بحثه عن الأمان والاطمئنان في هذا العالم، كان الإنسان بحاجة إلى نقاط علام ثابتة من حوله، والى العثور على نظام واضح يفسّر تطور الحدثيات والروابط التي تحكم العلاقات بين الأفراد وبين عناصر الطبيعة. لذلك سعى منذ الأزل لإيجاد ثوابت معينة وحدثيات تتكرر بانتظام، أكانت في الطبيعة أو النظام الاجتماعي، وتعمّق لديه الميل إلى البحث في كل مكان عن تطمينات في كلام الآخرين وعبر تطوير القوانين والمواثيق.

وثوابت الطبيعة قائمة لا جدال فيها، فهناك تناوب الليل والنهار والفصول والمناخات. أما بالنسبة النظام الاجتماعي والاقتصادي فقد قام بتركيب السلاسل الطويلة لكشف الحركات المستمرة الخطية أو الدورية، والتي قد لا تتكرر، أو تحكم بالضرورة مستقبل الجماعات الإنسانية، مثل تناوب سنوات الانتعاش والركود الاقتصادي.

لكن الأمور ليست بتلك البساطة لأن رؤيتنا ومحاكمتنا للواقع ليست دائما حيادية ومجرّدة، مما يقود في كثير من الأحيان إلى نتائج مغلوطة بالنسبة لاستشراف المستقبل.

وفي الحقيقة تتأثر رؤيتنا للواقع سلباً بعناصر عديدة منها:

1- إن الأفكار المسبقة مثل نظارات نضعها، فتجعلنا بشكل غير واع نندفع لرؤية بعض الأمور التي تناسب أفكارنا ولتجاهل أو نبذ الأخرى التي تزعجنا.

2- نماذجنا الفكرية الخاصة بنا، التي يتم حسبها فرز وتفسير الأمور حسب الموروث الثقافي والمفاهيم والبنى الفكرية.

3- عند استعمال وسائل المراقبة ومصادر المعلومات دون فكر نقدي مناسب.

4- وسائل القياس والمعايير التي سنستعملها والتي قد تدفع إلى فرط تقدير الثانوي على حساب الأساسي.

5- عطالة النظريات السائدة والتي نحتاج إلى زمن طويل للخروج من سيطرتها حتى لو لم تعد صالحة.

6- تأثير الإيديولوجيات والعقائد التي تشوّه الحقيقة.

بناء المستقبل

يقول Jacques Lesourne إن المستقبل يتعلق بالصدفة والضرورة والإرادة. لكننا نقول أن الصدف لا تفيد إلا النفوس المهيأة تماما.

وعندما نخضع للضرورة يكون ذلك غالبا نتيجة لسوء توقعاتنا، أما بالنسبة للإرادة فالمستقبل رهن بتضافر الإرادات واجتماعها، فالإرادة المفردة تبقى دائما عاجزة عن تحقيق ذاتها.

يجب أن نخرج من الفكرة القائلة أننا محكومون بمستقبل لا دخل لنا فيه، وسنبقى فقط متفرجين أمامه.

نحن بحاجة إلى ثورة ثقافية على مستوى الأفراد والمجتمع. فكل منا له دور ومسؤوليات في إحدى دوائر القرار.

وهذا هو الواقع الإنساني وهذا ما يصنع كرامة الإنسان.

واستشراف المستقبل فلسفياً هو ابن الحرية والمسؤولية، وبالتالي ليس مهنة أو علبة أدوات بل فلسفة وطريقة تفكير تكون نقدية وخلاقة بآن واحد.

ولهذا نحن بحاجة لتطوير بنى مستقلة للتفكير بالمستقبل، وأمكنة يمكن أن تتم فيها أبحاث على معاني الاستشراف، وإنتاج طرق وآليات لمجابهة المستقبلات الممكنة والخيارات التي يجب اتخاذها تجاهها..

وممارسة السلطة يعني وجود فكرة محرّكة، ونظام من الأفكار والقيم نستطيع عبره تعريف الهدف ورسم رؤية بالنسبة للمستقبل المرغوب.

قال تاليران Talleyrand "عندما يصبح الأمر ملحّا يكون قد فات الأوان" وكثيرا ما يقول أصحاب القرار مبررين فشلهم أنهم "لم يكن لديهم الخيار" وأنهم "تصرفوا تحت الضغوط". لكن الحقيقة مختلفة تماما: كان حريّا بهم أن يقولوا أنهم لم يعد لديهم الخيار لأنهم تركوا الأمور تفلت من السيطرة، وصولا إلى نقطة فقدوا فيها الحرية والقدرة على تغيير مجريات الأحداث.

وليس الوقوع تحت سيطرة الظروف والضرورات إلا نتيجة لسوء التخطيط وسوء استشراف المستقبل.

أي أنه يجب أن يكون هناك وعي بالنسبة للأوضاع قيد التشكيل، عندما تكون ما زالت قابلة للتغيير، وبمعنى آخر دون وجود نشاط تنبؤي لا توجد حرية للقرار. وقال الفيلسوف سينيك Seneque :"لا توجد رياح مؤاتية بالنسبة للذي لا يعرف إلى أين هو ذاهب".

وهناك مثال بسيط ذكره Gaston Berger يوضح ذلك: على طريق معروف للسائق فإن الذي يقود عربة في الليل وببطء ليس بحاجة إلى أكثر من فانوس، أما الذي يقود سيارة سريعة على طريق جديدة بالنسبة له، فهو بحاجة إلى إنارة قوية تضيء كل الحنايا. فالقيادة بسرعة دون إنارة ورؤية هو جنون مطلق. الإنارة والرؤية ليستا إلا الوعي والاستشراف.

إن سرعة المتغيرات وعدم القدرة على التنبؤ بها، يفرض على الأقل القدرة على التكيّف السريع معها. لكن تبقى قدرة التكيف هذه محدودة جدا بالنسبة للمؤسسات الكبيرة أو الدولة، حيث هناك عطالة قوية فيما يتعلق بالبنية التحتية وتأهيل القوى العاملة وتغيير الأفكار والتصرفات.

هناك فرق شاسع بين الاطفائي الذي يخمد النيران وبين الاستراتيجي الذي يشعل الحدث. أي بين التصرف بمنطق ردود الفعل أو بين أن يكون الشخص هو الفاعل والمخطط.

هناك 3 مواقف بمواجهة عدم معرفة القدرات الكافية للمستقبل:

1- الموقف السلبي أي الخضوع للمتغيرات

2- الموقف المنفعل أي انتظار التغيير لحصول رد الفعل

3- الموقف المستشرف بمعنيين: نشاط بدئي ونشاط فاعل pre & proactivity

4- النشاط البدئي هو التهيؤ والتحضّر استعدادا لتغير متوقع، بينما النشاط الفاعل هو العمل في سبيل تحقيق تغيير مرغوب فيه.

نحن حالنا مثل حال بحار يجب عليه بآن واحد أن:

1- يتوقع الرياح والصخور والتيارات والمراكب الأخرى والعوائق الموجودة في المنطقة، أي يجب عليه توقع حالة محيطه الاستراتيجي بما يتضمن ذلك من أجهزة المراقبة والتنصت وتوقع السيناريوهات المختلفة.

2- التصرف آخذاً بعين الاعتبار كل هذه القوى، ومناطق الضعف المختلفة، لتفادي الغرق والوصول بأسرع وقت إلى الميناء المقصود. هذا الميناء هو المشروع الواجب تحقيقه ويتم ذلك عبر تخطيط وبرمجة ووضع استراتيجية معينة مع تبني وسائل للقيادة أي أن هناك جدلية مستمرة بين سؤالين: ماذا سيحدث؟ وماذا أستطيع أن أفعل؟

3- ولا يصح مطلقاً المقارنة مع لعبة الشطرنج، إذ يمكن في مثالنا وفي كل لحظة أن يتغير شكل الرقعة وعدد الأحجار أو طريقة تحركها.

الاستشراف بمقابلة التنبؤ

هناك 3 خصائص للاستشراف تميزه عن التنبؤ:

1- مقاربة متعددة الاختصاصات.

2- مقاسات الزمن الطويل .Dimension du temps long

3- يضم ويأخذ بعين الاعتبار الانقطاعات في المسار مثل إشباع السوق أو تدخل اختراعات وإنجازات أو أشخاص جدد.

المراحل التي يجب إتباعها في الاستشراف:

1- تعريف المسألة واختيار الأفق.

2- بناء نموذج وتحديد المتغيرات الأساسية.

3- تجميع المعلومات والمعطيات وتشكيل النظريات.

4- بناء الخيارات المستقبلية الممكنة على شكل تشعّبات وتشجّرات.

5- الخيارات الاستراتيجية.

يجب دائماً أن نمارس معادلة بين الحلم والإمكانيات والفكر. والأحلام عليها أن تمر عبر مصفاة الفكر، وهذه المصفاة ما هي إلا دراسات حول قابلية التنفيذ feasibility studies، لتتحول بعدها إلى محركات للفعل.

الفرق بين الأرصاد الجوية ورسم مستقبل الأمة هو الفرق بين التنبؤ والاستشراف. وللأسف نحن ما زلنا أسرى التنبؤ وردود الأفعال القاصرة والمتأخرة دوما. وما زلنا نفتقر للخطط البديلة التي يمكن أن نلجأ إليها فورا عندما تفشل الخطة الأساسية نتيجة إحدى المتغيرات.

والاستشراف لا يمكن أن يكون نشاطاً فردياً خالصاً، بل هو حكماً عمل وجهد جماعي. وكما قلنا سابقا ليست الأمور ببساطة لعبة الشطرنج، ومن السذاجة بمكان أن نتخيل تحقيق أي نجاح أو تقدم دون وجود مركز متخصص في هذه الدراسات، يضم الأشخاص المؤهلين في اختصاصات مختلفة مع توفير كل الإمكانيات اللازمة له ليتمكن من استشراف المستقبل ووضع رؤية واقعية وصحيحة يمكن السير على هديها، علّنا ننتقل من سياسة الارتجال وردود الأفعال إلى مستويات التخطيط المسؤول، الفاعل والمنتج.




منقول