المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأربعين النووية وشروحها..سلسلة


شاعرة الحرمان
14-12-2005, 05:28 PM
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

أخواني في الله ..

نبدأ معاً في عرض مبسط مع الشرح الأحاديث الأربعون النووية للإمام أبو زكريا يحيى بن شرف النووي في كل مره حديث و اسأل الله أن ينتفع بها ..


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الحديث الأول

عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجـر إليه". (رواه إماما المحدّثين: أبو عبد الله محمـد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجعفي، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة).

شرح وفوائد الحديث:

دل الحديث على أن النية معيار لتصحيح الأعمال ، فحيث صلحت النية صلح العمل ، وحيث فسدت فسد العمل ، ، وإذا وجد العمل وقارنته النية فله ثلاثة أحوال :

(الأول) : أن يفعل ذلك خوفاً من الله تعالى وهذه عبادة العبيد .

(الثاني): أن يفعل ذلك لطلب الجنة والثواب وهذه عبادة التجار.

(الثالث): أن يفعل ذلك حياء من الله تعالى وتأدية لحق العبودية وتأدية للشكر ، ويرى نفسه مع ذلك مقصراً ، ويكون مع ذلك قلبه خائفاً لأنه لا يدري هل قبل عمله مع ذلك أم لا ، وهذه عبادة الأحرار ، وإليها أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالت له عائشة رضي الله عنها حين قام من الليل حتى تورمت قدماه : يا رسول الله !

أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟قال : (أفلا أكون عبداً شكوراً ؟). فإن قيل : هل الأفضل العبادة مع الخوف أو مع الرجاء ؟ . قيل : قال الغزالي رحمه الله تعالى : العبادة مع الرجاء أفضل ، لأن الرجاء يورث المحبة ، والخوف يورث القنوط .

وهذه الأقسام الثلاثة في حق المخلصين ، واعلم أن الإخلاص قد يعرض له آفة العجب ، فمن أعجب بعمله حبط عمله ، وكذلك من استكبر حبط عمله.

الحال الثاني : أن يفعل ذلك لطلب الدنيا والآخرة جميعها ، فذهب بعض أهل العلم إلى أن عمله مردود واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم في الخبر الرباني: ((يقول الله تعالى : أنا اغنى الشركاء فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه )).

وإلى هذا ذهب الحارث المحاسبي في كتاب (( الرعاية )) فقال : الإخلاص أن تريده بطاعته ولا تريد سواه . والرياء نوعان : أحدهما : لا يريد بطاعته إلا الناس والثاني : أن يريد الناس ورب الناس ، وكلاهما محبط للعمل ، ونقل هذا القول الحافظ أبو نُعيم في ((الحلية ))عن بعض السلف ، واستدل بعضهم على ذلك أيضاً بقوله تعالى( الجَّبار الُمتَكِّبرُ سُْبحَان الله عَمّا يُشْركوْنَ ) (الحشر : 23) ، فكما أنه تكبر عن الزوجة والولد والشريك ، تكبر أن يقبل عملاً أشرك فيه غيره ، فهو تعالى أكبر ، وكبير ، ومتكبر .

وقال السمر قندي رحمه الله تعالى: ما فعل لله قُِبلَ وما فعل من أجل الناس رُدَّ . ومثال ذلك من صلى الظهر مثلاً وقصد أداء ما فرض الله تعالى عليه ولكنه طول أركانه وقراءتها وحسَّن هيئتها من أجل الناس ، فأصل الصلاة مقبول ، وأما طوله وحسنه من أجل الناس فغير مقبول لأنه قصد به الناس .

وسئل الشيخ عز الدين ابن عبد السلام : عمن صلى فطول صلاته من أجل الناس ؟ فقال : أرجو أن لا يحبط عمله هذا كله إذا حصل التشريك في صفة العمل ، فإن حصل في أصل العمل بأن صلى الفريضة من أجل الله تعالى والناس ، فلا تقبل صلاته لأجل التشريك في أصل العمل ، وكما أن الرياء في العمل يكون في ترك العمل . قال الفضيل بن عياض: ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك ، والاخلاص ان يعافيك الله منهما .

ومعنى كلامه رحمه الله تعالى أن من عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراها الناس ، فهو مُراءٍ لأنه ترك العمل لأجل الناس ، أما لو تركها ليصليها في الخلوة فهذا مستحب إلا أن تكون فريضة ، أو زكاة واجبة ، أو يكون عالماً يقتدى به ، فالجهر بالعبادة في ذلك أفضل ، وكما أن الرياء محبط للعمل كذلك التسميع ، وهو أن يعمل لله في الخلوة ثم يحدث الناس بما عمل ، قال صلى الله عليه وسلم (( من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به )).

قال العلماء : فإن كان عالماً يقتدى به وذكر ذلك تنشيطاً للسامعين ليعملوا به فلا بأس . قال المرزباني ، رحمه الله تعالى عليه : يحتاج المصلى إلى اربع خصال حتى ترفع صلاته : حضور القلب ، وشهود العقل ، وخضوع الأركان ، وخشوع الجوارح ، فمن صلَّى بلا حضور قلب فهو مصلٍ لاهٍ ، ومن صلى بلا شهود عقل فهو مصل ساهٍ ، ومن صلى بلا خضوع الجوارح فهو مصل خاطىء ، ومن صلى بهذه الأركان فهو مصلٍ وافٍ .

قوله صلى الله عليه وسلم (( إنما الأعمال بالنيات )) أراد بها أعمال الطاعات دون أعمال المباحات ، قال الحارث المحاسبي : الإخلاص لا يدخل في مباح ، لأنه لا يشتمل على قربة ولا يؤدي إلى قربة ، كرفع البنيان لا لغرض الرعونة ، أما إذا كان لغرض كالمساجد والقناطر والأربطة فيكون مستحباً . قال : ولا إخلاص في محرم ولا مكروه ، كمن ينظر إلى ما لا يحل له النظر إليه ، ويزعم أنه ينظر إليه ليتفكر في صنع الله تعالى ، كالنظر إلى الأمرد ، وهذا لا إخلاص فيه بل لا قربة البتة ، قال : فالصدق في وصف العبد في استواء السر والعلانية والظاهر والباطن ، والصدق يتحقق بتحقق جميع المقامات والأحوال حتى إن الإخلاص يفتقر إلى الصدق ، والصدق لا يفتقر إلى شيء . لأن حقيقة الإخلاص هو إرادة الله تعالى بالطاعة ، فقد يريد الله بالصلاة ولكنه غافل عن حضور القلب فيها ، والصدق هو إرادة الله تعالى بالعبادة مع حضور القلب إليه ، فكل صادق مخلص ، وليس كل مخلص صادقاً ، وهو معنى الاتصال والانفصال ، لأنه انفصل عن غير الله واتصل بالحضور بالله ، وهو معنى التخلي عما سوى الله والتحلي بالحضور بين يدي الله سبحانه وتعالى .

قوله صلى الله عليه وسلم (( إنما الأعمال )) يحتمل : إنما صحة الأعمال أو تصحيح الأعمال ، أو قبول الأعمال ، أو كمال الأعمال ، وبهذا أخذ الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ، ويستثنى من الأعمال ما كان قبيل التروك كإزالة النجاسة ، ورد الغصوب والعواري ، وإيصال الهدية وغير ذلك ، فلا تتوقف صحتها على النية المصححة ، ولكن يتوقف الثواب فيها على نية التقرب ، ومن ذلك ما إذا أطعم دابته ، إن قصد بإطعامها امتثال أمر الله تعالى فإنه يثاب ، وإن قصد بإطعامها حفظ المالية فلا ثواب ، ذكره القرافي ، ويستثنى من ذلك فرس المجاهد ، إذا ربطها في سبيل الله فإنها إذا شربت وهو لا يريد سقيها أثيب على ذلك كما في صحيح البخاري ، وكذلك الزوجة وكذلك إغلاق الباب وإطفاء المصباح عند النوم إذا قصد به امتثال أمر الله أثيب وإن قصد أمراً آخر فلا .

واعلم أن النية لغة : القصد ، يقال نواك الله بخير : أي قصدك به . والنية شرعاً : قصد الشيء مقترناً بفعله ، فإن قصد وتراخى عنه فهو عزم ، وشرعت النية لتمييز العادة من العبادة أو لتمييز رتب العبادة بعضها عن بعض ، مثال الأول : الجلوس في المسجد قد يقصد للاستراحة في العادة ، وقد يقصد للعبادة بنية الاعتكاف ، فالمميز بين العبادة والعادة هو النية ، وكذلك الغسل : يقصد به تنظيف البدن في العادة ، وقد يقصد به العبادة فالمميز هو النية وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الرجل يقاتل رياء ويقاتل حمية ويقاتل شجاعة ، أي ذلك في سبيل الله تعالى ؟ فقال (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله تعالى )) ومثال الثاني وهو المميز رتب العبادة ، كمن صلى أربع ركعات قد يقصد إيقاعها عن صلاة الظهر وقد يقصد إيقاعها عن السنن فالمميز هو النية ، وكذلك العتق قد يقصد به الكفارة وقد يقصد به غيرها كالنذر ونحوه ، فالمميز هو النية .

وفي قوله صلى الله عليه وسلم (( وإنما لكل امرىء ما نوى )) دليل على أنه لا تجوز النيابة في العبادات ، ولا التوكيل من نفس النية ، وقد استثني من ذلك تفرقة الزكاة وذبح الأضحية ، فيجوز التوكيل فيهما في النية والذبح ، والتفرقة مع القدرة على النية . وفي الحج : لا يجوز ذلك مع القدرة ودفع الدين ، أما اذا كان على جهة واحدة لم يحتج إلى نية ، وإن كان على جهتين كمن عليه ألفان بأحدهما رهن فإدى ألفاً قال جعلته عن ألف الرهن ، صدق ، فإن لم ينو شئياً حالة الدفع ، ثم نوى بعد ذلك ، وجعله عما شاء وليس لنا نية تتأخر عن العمل وتصح إلا هنا .

قوله صلى الله عليه وسلم (( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )).

أصل المهاجرة المجافاة والترك ، فاسم الهجرة يقع على رموز :

الأولى : هجرة الصحابة رضي الله عنهم من مكة إلى الحبشة حين آذى المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ففروا منه إلى النجاشي ، وكانت هذه بعد البعثة بخمس سنين ، قاله البيهقي .

الهجرة الثانية : من مكة إلى المدينة وكانت هذه بعد البعثة بثلاث عشرة سنة ، وكان يجب على كل مسلم بمكة أن يهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وأطلق جماعة أن الهجرة كانت واجبة من مكة إلى المدينة ،وهذا ليس على إطلاقه فإنه لا خصوصية للمدينة ، وإنما الواجب الهجرة إلى رسول الله صلى عليه وسلم قال ابن العربي : قسم العلماء رضي الله عنهم الذهاب في الأرض هرباً وطلباً ، فالأول ينقسم إلى ستة أقسام :

(الأول) الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وهي باقية إلى يوم القيامة ،و التي انقطعت بالفتح في قوله صلى الله عليه وسلم (( لا هجرة بعد الفتح )) . هي القصد إلى رسول الله صلى عليه وسلم حيث كان .

(الثاني) الخروج من أرض البدعة ، قال ابن القاسم : سمعت مالكاً يقول : لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يُسَبُ فيها السلف.

(الثالث) الخروج من أرض يغلب عليها الحرام ، فإن طلب الحلال فريضة على كل مسلم .

(الرابع) الفرار من الأذية في البدن ، وذلك فضل من الله تعالى أرخص فيه ، فإذا خشي على نفسه في مكان فقد أذن الله تعالى له في الخروج عنه ، والفرار بنفسه يخلصها من ذلك المحذور ، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام حيث خاف من قومه فقال :{إٍنًّي مُهَاجِر ُ إِلى رَبًّي } [العنكبوت :26] . وقال تعالى مخبراً عن موسى عليه السلام : {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفَاَ يَتَرَقَّب ُ} [القصص:21].

(الخامس) الخروج خوف المرض في البلاد الوخمة ، إلى الأرض النزهة ، وقد أذن صلى الله عليه وسلم للعرنيين في ذلك حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المرج .

(السادس) الخروج خوفاً من الأذية في المال ، فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه .

وأما قسم الطلب ، فإنه ينقسم إلى عشرة : طلب دين وطلب دنيا ، وطلب الدين ينقسم إلى تسعة أنواع :

(الأول) سفر العبرة قال الله تعالى :{أَوَ لَمْ يَسِيْروُا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذينَ مِنْ قَبْلهِم } [الروم:9]. وقد طاف ذو القرنين في الدنيا ليرى عجائبها .

(الثاني) : سفر الحج .

(الثالث): سفر الجهاد.

(الرابع) : سفر العبرة المعاش.

(الخامس): سفر التجارة والكسب الزائد على القوت ، وهو جائز لقوله تعالى : {لَيْسَ عَلْيكُمْ جُنَاحُ أَنْ تَبْتغُوا فَضْلاً مِنْ رَبَّكم } [البقرة : 198].

(السادس) : طلب العلم .

(السابع) :قصد البقاع الشريفة ، قال صلى الله عليه وسلم : ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )).

(الثامن) : قصد الثغور للرباط بها .

(التاسع): زيارة الإخوان في الله تعالى ، قال صلى الله عليه وسلم: (( زار رجل أخاً له في قرية ، فأرسل الله ملكاً على مدرجته . فقال : أين تريد ؟ قال : أريد أخاً لي في هذه القرية ، فقال : هل له عليك من نعمة تؤديها قال : لا ، إلا أنني أحبه في الله تعالى قال : فإني رسول الله إليك بأن الله أحبك كما أحببته )). رواه مسلم . وغيره .

الثالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعلموا الشرائع ويرجعوا إلى قومهم فيعلموهم .

الرابعة : هجرة من أسلم من أهل مكة ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى قومه .

الخامسة : الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام ، فلا يحل للمسلم الإقامة بدار الكفر ، قال الماوردي : فإن صار له بها أهل وعشيرة ، وأمكنة إظهار دينه ،لم يجز له أن يهاجر ، لأن المكان الذي هو فيه قدر دار إسلام .

السادسة : هجرة المسلم أخاه فوق ثلاثة ، بغير سبب شرعي ، وهي مكروهة في الثلاثة ، وفيما زاد حرام إلا لضرورة.

السابعة : هجرة الزوج الزوجة إذا تحقق نشوزها قال تعالى {واهْجُرُوهُنَّ فِي اَلمَضَاجِع ِ} [ النساء :34]. ومن ذلك هجرة أهل المعاصي في المكان ،و الكلام ،و جواب السلام وابتداؤه .

الثامنة : هجرة ما نهى الله عنه ، وهي أعم الهجر.

قوله صلى الله عليه وسلم (( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله )) : أي نية وقصداً فهجرته إلى الله ورسوله حكماً وشرعاً.

(( ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها .. الخ )) نقلوا أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس ، فسمي مهاجر أم قيس . فإن قيل النكاح من مطلوبات الشرع فْلمَ كان من مطلوبات الدنيا؟ قيل في الجواب : إنه لم يخرج في الظاهر لها ، وإنما خرج في الظاهر للهجرة ، فلما أبطن خلاف ما أظهر استحق العتاب واللوم ،وقيس بذلك من خرج في الصورة الظاهرة لطلب الحج وقصد التجارة وكذلك الخروج لطلب العلم إذا قصد به حصول رياسة أو ولاية .

قوله صلى الله عليه وسلم (( فهجرته إلى ما هاجر إليه )) يقتضي أنه لا ثواب لمن قصد بالحج التجارة والزيارة ، وينبغي حمل الحديث على ما إذا كان المحرك الباعث له على الحج إنما هو التجارة ، فإن كان الباعث له الحج فله الثواب ، والتجارة تبع له إلا أنه ناقص الأجر عمن أخرج نفسه للحج ، وإن كان الباعث له كليهما فيحتمل حصول الثواب لأن هجرته لم تتمخص للدنيا ، ويحتمل خلافه لأنه قد خلط عمل الآخرة بعمل الدنيا ، لكن الحديث رتب فيه الحكم على القصد المجرد ، فأما من قصدهما لم يصدق عليه أنه قصد الدنيا فقط ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

@حفـ الأميرـيدة@
15-12-2005, 11:07 PM
جزاك الله ألف خير عل هذا المجهود الرائع أختي الغاليه
شاعرة الحرمان وهذا من لك أختي الغاليه
http://www.w3oood.com/vb/image.php?u=109&dateline=1133260517

شاعرة الحرمان
16-12-2005, 11:47 PM
جزاك الله خيرا
والله يقدرني الى اتمام هذه السلسة

أبوعبدالرحمن
16-12-2005, 11:57 PM
اختيار رائع و مجهود مميز

جزاك الله خيرا على هذا الجهد وأعانك الله على استكمالها

شاعرة الحرمان
19-12-2005, 10:25 PM
جزاك الله خيرا
وجعلها الله في ميزان حسناتك

شاعرة الحرمان
19-12-2005, 10:59 PM
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته ..

أتوجه أولا بالشكر لكل من شكر وأثنى والشكر والثناء لله أولا ..

نكمل بالحديث الثاني وبالله المستعان ...


الحديث الثاني

عن عمر (رضي الله عنه) أيضاً قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمّد أخبرني عن الإسلام؟! فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً"، قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره"، قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل"، قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان"، ثم انطلق. فلبثت ملياً، ثم قال: "يا عمر أ تدري من السائل؟" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلّمكم دينكم". (رواه مسلم)

شرح وفوائد الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم : أخبرني عن الإيمان : الإيمان في اللغة : هو مطلق التصديق ، وفي الشرع : عبارة عن تصديق خاص ، وهو التصديق بالله ، وملائكته وكتبه ، ورسله ، وباليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره . وأما الإسلام فهو عبارة عن فعل الواجبات، وهو الانقياد إلى عمل الظاهر . قد غاير الله تعالى بين الإيمان والإسلام كما في الحديث ، قال الله تعالى :{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤِْمُنوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } [الحجرات :14].وذلك أنَّ المنافقين كانوا يصلون ويصومون ويتصدقون ، وبقلوبهم ينكرون، فلما ادَّعوا الإيمان كذَّبَهم الله تعالى في دعواهم الإيمان لإنكارهم بالقلوب،وصدقهم في دعوى الإسلام لتعاطيهم إياه . وقال الله تعالى: {إِذا جاءك المنافقون قالوا نشهدُ إنكَ لَرَسُولُ اللهِ واللهُ يعلمُ إنَّك لرسولُهُ واللهُ يَشْهَدُ إنَّ المنافقينَ لكَاذبون َ} [المنافقون :1]. أي في دعواهم الشهادة بالرسالة مع مخالفة قلوبهم ، لأن ألسنتهم لم تواطىء قلوبهم ،وشرط الشهادة بالرسالة : أن يواطىء اللسان القلب فلما كذبوا في دعواهم بَّين الله تعالى كذبهم ، ولما كان الإيمان شرطاً في صحة الإسلام استثنى الله تعالى من المؤمنين المسلمين قال الله تعالى : { فأخرجْنا مَنْ كَانَ فيها مِنَ المؤمنينَ فما وَجَدْنَا فيها غير بَيْتٍ مِنَ المسِْلمِينَ } [الذاريات : 35- 36] فهذا استثناء متصل لما بين الشروط من الاتصال ولهذا سمى الله تعالى الصلاة : إيماناً :قال الله تعالى : { وََمَا كَانَ اللهُ ليضيع إيمانكم } [البقرة : 143]. وقال تعالى : {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [الشورى :52] أي الصلاة .

قوله صلى الله عليه وسلم : (( وتؤمن بالقدر خيره وشره )) بفتح الدال وسكونها لغتان ، ومذهب أهل الحق : إثبات القدر ، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى قدر الأشياء في القدم ، وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى ، وفي أمكنة معلومة وهي تقع على حسب ما قدره الله سبحانه وتعالى . واعلم أن التقادير أربعة :

(الأول) التقدير في العلم ولهذا قيل : العناية قبل الولاية ، والسعادة قبل الولادة ،واللواحق مبنية على السوابق ، قال الله تعالى {يؤفك عنه من أُفِك َ} [الذاريات :9] أي يصرف عن سماع القرآن وعن الإيمان به في الدنيا من صرف عنه في القدم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يهلك الله إلا هالكاً )) أي من كتب في علم الله تعالى أنه هالك .

(الثاني) التقدير في اللوح المحفوظ ، وهذا التقدير يمكن أن يتغير قال الله تعالى : {يمحو الله ما يشاءُ ويثبت وعنده أم الكتاب } [الرعد :39] وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول في دعائه : (( اللهم إن كنت كتبتني شقياً فامحني واكتبني سعيداً )).

(الثالث) التقدير في الرحم ، وذلك أن الملك يؤمر بكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد .

(الرابع ) التقدير وهو سوق المقادير إلى المواقيت ، والله تعالى خلق الخير والشر وقدر مجئيه إلى العبد في أوقات معلومة .و الدليل على أن الله تعالى خلق الخير والشر قوله تعالى:{ إن المجرمين في ضلال وَسُعُرُ * يوم يُسحَبون في النار على وجوهِهمْ ذوقوا مَسَّ سَقَر * إنَّا كلَّ شي خلقناهُ بقَدَر ِ} [القمر 47-49] نزلت هذه الأية في القدرية ، يقال لهم ذلك في جهنم، وقال تعالى { قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق } [الفلق 1-2]. وهذا القسم إذا حصل اللطف بالعبد صرف عنه قبل أن يصل إليه .

وفي الحديث : (( إن الصدقة وصلة الرحم تدفع ميتة السوء وتقلبه سعادة )).

وفي الحديث: ( إن الدعاء والبلاء بين السماء والأرض يقتتلان ، ويدفع الدعاء البلاء قبل أن ينزل )).

وزعمت القدرية : أن الله تعالى لم يقدر الأشياء في القدم ، ولا سبق علمه بها ، وأنها مستأنفة ، وأنه تعالى يعلمها بعد وقوعها ، وكذبوا على الله سبحانه وتعالى جلَّ عن إقوالهم الكاذبة وتعالى علواً كبيراً ، وهؤلاء انقرضوا وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة يقولون : الخير من الله والشر من غيره ، تعالى الله عن قولهم ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( القدرية مجوس هذه الأمة )) . سماهم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس ، وزعمت الثنوية أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية ، كذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله والشر إلى غيره وهو تعالى خالق الخير والشر .

قال إمام الحرمين في كتاب ((الإرشاد )) إن بعض القدرية تقول : لسنا بقدرية بل أنتم القدرية لاعتقادكم أخبار القدر ،و رد على هؤلاء الجهلة بأنهم يضيفون القدر إلى أنفسهم ، ومن يدعي الشر لنفسه ويضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يضيفه لغيره وينفيه عن نفسه .

قوله صلى الله عليه وسلم : فأخبرني عن الإحسان قال : (( الأحسان أن تعبد الله كأنك تراه )) وهذا مقام المشاهدة لأن من قدر أن يشاهد الملك استحى أن يلتفت إلىغيره في الصلاة وأن يشغل قلبه بغيره ومقام الإحسان مقام الصديقين وقد تقدم في الحديث الأول الإشارة إلى ذلك .

قوله صلى الله عليه وسلم : ((فإنه يراك )) غافلاً إن غفلت في الصلاة وحدثت النفس فيها .

قوله صلى الله عليه وسلم : فأخبرني عن الساعة فقال : (( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل )) هذا الجواب على أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يعلم متى الساعة؟ بل علم الساعة مما استأثر الله تعالى به ، قال الله تعالى : { إن الله عنده علم الساعة } [لقمان:34]. وقال تعالى : {ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة } [الإعراف:187}.وقال تعالى :{ وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً }[الأحزاب:63].

ومن ادعى أن عمر الدنيا سبعون ألف سنة وأنه بقي منها ثلاثة وستون ألف سنة فهو قول باطل حكاه الطوخي في ((أسباب التنزيل )) عن بعض المنجمين وأهل الحساب ، ومن ادعى أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة فهذا يسوف على الغيب ولا يحل اعتقاده.

قوله صلى الله عليه وسلم : فأخبرني عن أماراتها قال : (( أن تلد الأمة ربتها )) الأمار والأمارة بإثبات التاء وحذفها لغتان ، وروي ربها وربتها ، قال الأكثرون هذا إخبار عن كثرة السراري وأولادهن ، فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها لأن مال الإنسان صائر إلى ولده ، وقيل معناه الإماء يلدن الملوك فتكون أمة من جملة رعيته ، ويحتمل أن يكون المعنى : أن الشخص يستولد الجارية ولداً ويبيعها فيكبر الولد ويشتري أمه ، وهذا من أشراط الساعة.

قوله صلى الله عليه وسلم : (( وأن ترى الحفاة العراة العالة ، رعاء الشاء يتطاولون في البنيان )) إذ العالة هم الفقراء ، والعائل الفقير ، والعيلة الفقر وعال الرجل يعيل عيلة أي افتقر . والرعاء بكسر الراء وبالمد ويقال فيه رعاة بضم الراء وزيادة تاء بلا مد معناه أن أهل البادية وأشباهم من أهل الحاجة والفاقة يترقون في البنيان والدنيا تبسط لهم حتى يتباهوا في البنيان .

قوله : (( فلبث مليا )) هو بفتح الثاء على أنه للغائب ، وقيل : فلبثت بزيادة تاء المتكلم وكلاهما صحيح . وملياً بتشديد الياء معناه وقتاً طويلاً.وفي رواية أبي داود والترمذي أنه قال : بعد ثلاثة أيام . وفي (( شرح التنبيه )) للبغوي أنه قال : بعد ثلاثة فأكثر ، وظاهر هذا أنه بعد ثلاث ليال . وفي ظاهر هذا مخالفة لقول أبي هريرة في حديثه ، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ردوا علىَّ الرجل )) فأخذوا يردونه فلم يروا شيئاً فقال صلى الله عليه وسلم : (( رودا علىَّ الرجل )) فأخذوا يرودنه فلم يروا شيئاً فقال صلى الله عليه وسلم : (( هذا جبريل )) فيمكن الجمع بينهما بأن عمر رضي الله عنه لم يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الحال ، بل كان قد قام من المجلس فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال ، وأخبروا عمر بعد ثلاث إذ لم يكن حاضراً عن إخبار الباقين .

وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (( هذا جبريل آتاكم يعلمكم أمر دينكم )) ، فيه دليل على ان الإيمان ،و الإسلام ،و الإحسان ، تسمى كلها ديناً ، وفي الحديث دليل على أن الإيمان بالقدر واجب ، وعلى ترك الخوض في الأمور ، وعلى وجوب الرضا بالقضاء . دخل رجل على ابن حنبل رحمه الله . فقال : عظني . فقال له : إن كان الله تعالى قد تكفل بالرزق فاهتمامك لماذا ؟ وإن كان الخلف على الله حقاً فالبخل لماذا ؟ وإن كانت الجنة حقاً فالراحة لماذا ؟ وإن كان سؤال منكر ونكير حقاً فالأنس لماذا؟وإن كانت الدنيا فانية فالطمأنينة لماذا ؟ وإن كان الحساب حقاً فالجمع لماذا ؟ وإن كان كل شيء بقضاء وقدر فالخوف لماذا ؟

(فائدة ) ذكر صاحب (( مقامات العلماء )) أن الدنيا كلها مقسومة على خمسة وعشرين قسماً : خمسة بالقضاء والقدر ، وخمسة بالاجتهاد ، وخمسة منها بالعادة ، وخمسة بالجوهر ، وخمسة بالوراثة . فأما الخمسة التي بالقضاء والقدر : فالرزق ، والولد ، والأهل ، والسلطان ، والعمر . والخمسة التي بالاجتهاد : فالجنة ، والنار ن والعفة ،و الفروسية ، والكتابة . والخمسة التي بالعادة : فالأكل ، والنوم ، والمشي ،و النكاح ،و التغوط .و الخمسة التي بالجوهر : فالزهد ، والزكاة ، والبذل ، والجمال ،و الهيبة. والخمسة التي بالوراثة : فالخير ، والتواصل ، والسخاء والصدق ،و الأمانة . وهذا كله لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم (( كل شيء بقضاء وقدر )). وإنما معناه : أن بعض هذه الأشياء يكون مرتباً على سبب ،وبعضها يكون بغير سبب ، والجميع بقضاء وقدر .

تحياتي للجميع ... والله أعلم

شاعرة الحرمان
24-12-2005, 09:26 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته ..

نستكمل بالحديث الثالث ..


عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "بني الإسلام على خمسٍ؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان". (رواه البخاري ومسلم)

شرح وفوائد الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم : (( بني الإسلام على خمس )) أي فمن أتى بهذه الخمس فقد تم إسلامه ، كما أن البيت يتم بأركانه كذلك الإسلام يتم بأركانه وهي خمس ، وهذا بناء معنوي شبه بالحسي ، ووجه الشبه أن البناء الحسي إذا انهدم بعض أركانه لم يتم ، فكذلك البناء المعنوي ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :

(( الصلاة عماد الدين فمن تركها فقد هدم الدين )) ،و كذلك يقاس البقية.

وقد ضرب الله مثلاً للمؤمنين والمنافقين فقال تعالى : { أفمن أسس بُنيانَهُ على تقوى مِنَ الله ورضوان خيُر أم من أسس بنيانه علىشفا جُرُف هارٍ فانهارَ به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين } [التوبة109]. شبه بناء المؤمن بالذي وضع بنيانه على وسط طود أي : جبل راسخ ،وشبه بناء الكافر بمن وضع بنيانه على طرف جرف بحر هار ، لا ثبات له فأكله البحر فانهار الجرف فانهار بنيانه فوقع به في البحر ، فغرق ، فدخل جهنم .

قوله صلى الله عليه وسلم: (( بني الإسلام على خمس )) أي بخمس على أن تكون على : بمعنى الباء وإلا فالمبني غير المبنى عليه فلو أخذنا بظاهره لكانت الخمسة خارجة عن الإسلام وهو فاسد ، ويحتمل أن تكون بمعنى من كقوله تعالى { إلا على أزواجهم }. [المومنون:6والمعارج :30]. أي من أزواجهم . الخمسة المذكورة في الحديث أصول البناء وأما التتمات المكملات كبقية الواجبات وسائر المستحبات فهي زينة للبناء . وقد ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (( الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله ، قال وأدناها إماطة الأذى عن الطريق )).

قوله صلى الله عليه وسلم: (( وحج البيت وصوم رمضان )). هكذا جاء في هذه الرواية بتقديم الحج على الصوم ، وهذا من باب الترتيب في الذكر دون الحكم ، لأن صوم رمضان وجب قبل الحج وقد جاء في الرواية الأخرى تقديم الصوم على الحج.



تحياتي

شاعرة الحرمان
29-12-2005, 09:37 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته ..

نستكمل بالحديث الرابع :

عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: حدّثنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفةً ثم يكون علقةً مثل ذلك ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكَتْب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحد كم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها". (رواه البخاري ومسلم)

شرح وفوائد الحديث

قوله : وهو الصادق المصدوق ، أي شهد الله له بأنه الصادق ، والمصدوق بمعنى المصدق فيه.

قوله صلى الله عليه وسلم (( يجمع خلقه في بطن أمه )) يحتمل أن يراد أن يجمع بين ماء الرجل والمرأة فيخلق منهما الولد كما قال الله تعالى : { خلق من ماء دافق * يَخْرُج من بين الصلب والترائب } [الطارق:6،7].

ويحتمل أن المراد أنه يجمع من البدن كله ، وذلك أنه قيل : إن النطفة في الطور الأول تسري في جسد المرأة أربعين يوماً ، وهي أيام التوحمة ، ثم بعد ذلك يجمع ويدر عليها من تربة المولود فتصير علقة ثم يستمر في الطور الثاني فيأخذ في الكبر حتى تصير مضغة ، وسميت مضغة لأنها بقدر اللقمة التي تمضغ ، ثم في الطور الثالث يصور الله تلك المضغ ويشق فيها السمع والبصر والشم والفم ، ويصور في داخل جوفها الحوايا والأمعاء ، قال الله تعالى : { هو الذي يصوَّرُكُم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيزُ الحكيمُ } [آل عمران :6]، ثم إذا تم الطور الثالث وهو أربعون صار للمولود أربعة أشهر نفخت فيه الروح ، قال الله تعالى: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب} يعني أباكم آدم { ثم من نطفة } يعني ذريته ، والنطفة المني وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف { ثم من علقة } وهو الدم الغليظ المتجمد ، وتلك النطفة تصير دماً غليظاً {ثم من مضغةٍ} وهي لحمة { مُخَلَّقَةٍ وغير مُخَلَّقَة ٍ} [الحج:5]. قال ابن عباس مخلقة : أي تامة ، وغير مخلقة أي غير تامة بل ناقصة الخلق ، وقال مجاهد : مصورة وغير مصورة ، يعني السقط . وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : (( إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها الملك بكفه فقال : أي رب مخلقة ، أو غير مخلقة ؟ فإن قال : غير مخلقة ، قذفها في الرحم دماً ولم تكن نسمة ، وإن قال : مخلقة ، قال الملك : أي رب ذكرُ أم أنثى ؟ أشقي أم سعيدُ ؟ ، ما الرزق وما الأجل وبأي أرض تموت ؟ فيقال له اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك . فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها فلا تزال معه حتى يأتي إلى آخر صفته )).

ولهذا قيل : السعادة قبل الولادة .

قوله صلى الله عليه وسلم : (( فيسبق عليه الكتاب )) أي الذي سبق في العلم ، أو الذي سبق في اللوح المحفوظ ، أو الذي سبق في بطن الأم . وقد تقدم أن المقادير أربعة .

قوله صلى الله عليه وسلم : (( حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع )) هو تمثيل وتقريب ، والمراد قطعة من الزمان من آخر عمره وليس المراد حقيقة الذراع وتحديده من الزمان ، فإن الكافر إذا قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ثم مات دخل الجنة ، والمسلم إذا تكلم في آخر عمره بكلمة الكفر دخل النار .

وفي الحديث دليل على عدم القطع بدخول الجنة أو النار ، وإن عمل سائر أنواع البر ، أو عمل سائر أنواع الفسق ، وعلى أن الشخص لا يتكل على عمله ولا يعجب به لأنه لا يدري ما الخاتمة . وينبغي لكل أحد أن يسأل الله سبحانه وتعالى حسن الخاتمة ويسعيذ بالله تعالى من سوء الخاتمة وشر العاقبة . فإن قيل : قال الله تعالى :{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نُضَيِّع أجر مَن أحسن عملاً }. [الكهف:30] ظاهر الآية أن العمل الصالح من المخلص يقبل ، وإذا حصل القبول بوعد الكريم أمن مع ذلك من سوء الخاتمة .

فالجواب من وجهين : احدهما أن يكون ذلك معلقاً على شرط القبول وحسن الخاتمة ،و يحتمل أن من آمن وأخلص العمل لا يختم له دائماً إلا بخير ، وأن خاتمة السوء إنما تكون في حق من أساء العمل أو خلطه بالعمل الصالح المشوب بنوع من الرياء والسمعة ويدل عليه الحديث الآخر (( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس )) أي : فيما يظهر لهم صلاح مع فساد سريرته وخبثها ،و الله أعلم .

وفي الحديث دليل على استحباب الحلق لتأكيد الأمر في النفوس وقد أقسم الله تعالى : { فورب السماء والأرض إنه لحق } .[الذاريات:23]، وقال الله تعالى :{قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم }. [التغابن:7].

والله تعالى أعلم .

شاعرة الحرمان
29-12-2005, 09:42 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته ..

أولا .. جزاك الله خير اختي اسرار واسأل الله العزيز المنان رب العرش والجنان أن يسعدك بالدنيا والأخره ...

نستكمل بالحديث الخامس ...

عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". (رواه البخاري ومسلم) وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".

شرح وفوائد الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم: (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) أي مردود. فيه دليل على أن العبادات من الغسل والوضوء والصوم والصلاة إذا فعلت على خلاف الشرع تكون مردودة على فاعلها ، وأن المأخوذ بالعقد الفاسد يجب رده على صاحبه ولا يملك ،وقال صلى الله عليه وسلم للذي قال له : إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته ، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاه ووليدة، فقال صلى الله عليه وسلم : (( الوليدة والغنم ردّ عليك )) . وفيه دليل على أن من ابتدع في الدين بدعة لا توافق الشرع فإثمها عليه ،و عمله مردود عليه وإنه يستحق الوعيد ، وقد قال صلى عليه وسلم : (( من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله )).

والله تعالى أعلم ...

شاعرة الحرمان
29-12-2005, 09:44 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

السلام عليكم وحمه الله .

كنا توقفنا عند الحديث الخامس ، و الآن بعون الله نبدأ بحديث غاية في الأهمية هو الحديث السادس :

عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". (رواه البخاري ومسلم)

شرح وفوائد الحديث :

قوله صلى الله عليه وسلم (( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات .... الخ )) اختلف العلماء في حد الحلال والحرام ، فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: الحلال مادل الدليل على حله . وقال الشافعي رحمه الله : الحرام ما دل الدليل على تحريمه .

قوله صلى الله عليه وسلم (( وبينهما أمور مشتبهات )) أي بين الحلال والحرام أمور مشتبهة بالحلال والحرام ، فحيث انتفت الكراهة وكان السؤال عنه بدعة .وذلك إذا قدم غريب بمتاع يبيعه فلا يجب البحث عن ذلك ، بل ولا يستحب ،ويكره السؤال عنه .

قوله صلى الله عليه وسلم ((فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )) أي طلب براءة دينه وسلم من الشبهة . وأما براءة العرض فإنه إذا لم يتركها تطاول إليه السفهاء بالغيبة ونسبوه إلى أكل الحرام فيكون مدعاة لوقوعهم في الإثم وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقف مواقف التهم )).. وعن علي رضي الله عنه أنه قال : إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره ، وإن كان عندك اعتذاره، فرب سامع نكراً لا تستطيع أن تسمعه عذرا?ً.

وفي صحيح الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال ((إذا أحدث أحدكم في الصلاة فليأخذ بأنفه ثم لينصرف )) وذلك لئلا يقال عنه أحدث .

قوله عليه الصلاة والسلام (( فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام )) يحتمل أمرين : احدهما أن يقع في الحرام وهو يظن أنه ليس بحرام . والثاني : أن يكون المعنى قد قارب أن يقع في الحرام كما يقال : المعاصي بريد الكفر .لأن النفس إذا وقعت في المخالفة تدرجت من مفسدة إلى أخرى أكبر منها ،قيل : وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : { ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }. [آل عمران:112]. يريد أنهم تدرجوا بالمعاصي إلى قتل الأنبياء .

وفي الحديث (( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده )).

أي يتدرج من البيضة والحبل إلى نصاب السرقة ، والحمى ما يحميه الغير من الحشيش في الأرض المباحة فمن رعى حول الحمى يقرب أن تقع فيه ماشيته فيرعي فيما حماه الغير بخلاف ما إذا رعى إبله بعيداً من الحمى .واعلم أن كل محرم له حمى يحيط به ، فالفرج محرم وحماه الفخذان لأنهما جعلاً حريماً للمحرم ، وكذلك الخلوة بالإجنبية حمى للمحرم ، فيجب على الشخص أن يجتنب الحريم والمحرَّم، فالمحرم حرام لعينه، والحريم محرم لأنه يتدرج به إلى المحرم .

قوله صلى الله عليه وسلم (( ألا وإن في الجسد مضغة )) أي في الجسد مضغة إذا خشعت خشعت الجوارح، وإذا طمحت طمحت الجوارح وإذا فسدت فسدت الجوارح . قال العلماء : البدن مملكة والنفس مدينتها،و القلب وسط المملكة ،و الأعضاء كالخدام والقوى الباطنية كضياع المدينة ، والعقل كالوزير المشفق الناصح به ، والشهوة طالب أرزاق الخدام،و الغضب صاحب الشرطة ، وهو عبد مكار خبيث، يتمثل بصورة الناصح ونصحه سم قاتل ،و دأبه أبداً منازعة الوزير الناصح والقوة المخيلة في مقدم الدماغ كالخازن ، والقوة المفكرة في وسط الدماغ، والقوة الحافظة في آخر الدماغ ، واللسان كالترجمان ،و الحواس الخمس جواسيس ، وقد وكل كل واحد منهم بصنيع من الصناعات ، فوكل العين بعالم الألوان ، والسمع بعالم الأصوات ،وكذلك سائرها فإنها أصحاب الأخبار ، ثم قيل : هي كالحجبة توصل إلى النفس ما تدركه ، وقيل : إن السمع والبصر والشم كالطاقات تنظر منها النفس ، فالقلب هو الملك فإذا صلح الراعي صلحت الرعية وإذا فسد فسدت الرعية ، وإنما يحصل صلاحه بسلامته من الأمراض الباطنة كالغل والحقد والحسد والشح والبخل والكبر والسخرية والرياء والسمعة والمكر والحرص والطمع وعدم الرضى بالمقدور، وأمراض القلب كثيرة تبلغ نحو الأربعين ، عافانا الله منها وجعلنا ممن يأتيه بقلب سليم.

.........




مع تحياتي

شاعرة الحرمان
29-12-2005, 09:45 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

السلام عليكم وحمه الله وبركاته ..


عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى". (رواه البخاري ومسلم)

شرح وفوائد الحديث


قوله صلى الله عليه وسلم (( أمرت... إلخ )) فيه دليل على أن مطلق الأمر وصيغته تدل على الوجوب.

قوله صلى الله عليه وسلم ((فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم )) ، فإن قيل : فالصوم من أركان الإسلام وكذلك الحج ولم يذكرهما ‍‍‍‍، فجوابه : أن الصوم لا يقاتل الإنسان عليه بل يحبس ويمنع الطعام والشراب ، والحج على التراخي، فلايقاتل عليه ، وإنما ذكر رسول الله صلى عليه وسلم هذه الثلاثة لأنه يقاتل على تركها ولهذا لم يذكر الصوم والحج لمعاذ حين بعثه إلى اليمن ، بل ذكر هذه الثلاثة ، خاصة ..

وقوله صلى الله عليه وسلم ((إلا بحق الإسلام )) فمن حق الإسلام فعل الواجبات ، فمن ترك الواجبات جاز قتاله كالبغاة ، وقطاع الطريق ، والصائل ، ومانع الزكاة ، والممتنع من بذله الماء للمضطر والبهيمة المحترمة . والجاني والممتنع من قضاء الدين مع القُدرة ، والزاني المحصن ،و تارك الجمعة والوضوء.

ففي تلك الأحوال يباح قتله وقتاله ، وكذلك لو ترك الجماعة ،وقلنا إنها فرض عين ، أو كفاية .

قوله صلى الله عليه وسلم (( و حسابهم على الله )) يعني من أتى بالشهادتين واقام الصلاة وآتى الزكاة عصم دمه وماله ، ثم إن كان فعل ذلك بنية خالصة صالحة فهو مؤمن ، وإن كان فعله تقية وخوفاً من السيف كالمنافق فحسابه على الله ، وهو متولي السرائر ،وكذلك من صلى بغير وضوء أو غسل من الجنابة ، أو أكل في بيته وادعى أنه صائم ، يقبل منه وحسابه على الله عز وجل والله أعلم.

شاعرة الحرمان
29-12-2005, 09:45 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته ..


عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم". (رواه البخاري ومسلم)

شرح وفوائد الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم (( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه )) أي اجتنبوه جملة واحدة لا تفعلوه ولا شيئاً منه ، وهذا محموله على نهي التحريم ، فأما نهي الكراهة فيجوز فعله ، وأصل النهي في اللغة : المنع .

قوله صلى الله عليه وسلم (( وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )) فيه مسائل : منها إذا وجد ماء للوضوء لا يكفيه فالأظهر وجوب استعماله ثم يتيمم للباقي . ومنها إذا وجد بعض الصاع في الفطرة فإنه يجب إخراجه . ومنها إذا وجد بعض ما يكفي لنفقة القريب أو الزوجة أو البهيمة فإنه يجب بذله . وهذا بخلاف ما اذا وجد بعض الرقبة فإنه لا يجب عتقه عن الكفارة ، لأن الكفارة لها بدل وهو الصوم .

وقوله صلى الله عليه وسلم (( فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم علىأنبيائهم )). اعلم ان السؤال على أقسام :

القسم الأول : سؤال الجاهل عن فرائض الدين كالوضوء والصلاة والصوم ، وعن أحكام المعاملة ونحو ذلك .

وهذا السؤال واجب وعليه حمل قوله صلى الله عليه وسلم (( طلب العلم فريضة على كل مسلم )) ومسلمة ، ولا يسع الإنسان السكوت عن ذلك قال تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } [النحل:43]، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إني أعطيت لساناً سؤولاً وقلباً عقولاً ، كذلك أخبر عن نفسه رضي الله تعالى عنه .

والقسم الثاني: السؤال عن التفقه في الدين سبحانه وتعالى :{ فلولا نفر َ مِنْ كُلَّ فرقةٍ منهم طائفة ، ليتفقهوا في الدين ولِينذِروا قومَهُمْ إذا رَجَعوا إليهم لعلهم يَحذَرون } [التوبة:122].

وقال صلى الله عليه وسلم (( ألا فليعلم الشاهد منكم الغائب )).

القسم الثالث : أن يسأل عن شيء لم يوجبه الله عليه ، ولا على غيره ، وعلى هذا حمل الحديث لأنه قد يكون في السؤال ترتب مشقة بسبب تكليف يحصل ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (( وسكت عن أشياء رحمة لكم فلا تسألوا عنها )) . وعن علي رضي الله عنه لما نزلت {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ً}. [آل عمران :97].

قال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه ، حتى أعاد مرتين أو ثلاثاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( وما يوشك أن أقول نعم ، والله لو قلت : نعم لو جبت ، ولو وجبت لما استطعتم ، فاتركوني ما تركتكم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن أمر فأجتنبوه )).

فإنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تَسُؤُكُم } [المائدة:101]. أي لم آمركم بالعمل بها ، وهذا النهي خاص بزمانه صلى الله عليه وسلم . أما بعد أن استقرت الشريعة ،و أمن من الزيادة فيها زال النهي بزوال سببه ،وكره جماعة من السلف السؤال عن معاني الآيات المشتبهة .

سئل مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى :{الرحمن على العرش استوى }[طه:5] فقال : الاستواء معلوم، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة وأراك رجل سوء أخرجوه عني .

والله أعلم ...

محمد95
09-01-2006, 10:23 AM
أثابك الله وأحسن إليك هذا جهد مبارك ومشكور .

شاعرة الحرمان
06-02-2006, 11:17 PM
جزاك الله خيرا وساعمل على اكمالها

شاعرة الحرمان
06-02-2006, 11:40 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته ..

أولا .. جزاك الله خير اختي اسرار واسأل الله العزيز المنان رب العرش والجنان أن يسعدك بالدنيا والأخره ...

نستكمل بالحديث الخامس ...

عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". (رواه البخاري ومسلم) وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".

شرح وفوائد الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم: (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) أي مردود. فيه دليل على أن العبادات من الغسل والوضوء والصوم والصلاة إذا فعلت على خلاف الشرع تكون مردودة على فاعلها ، وأن المأخوذ بالعقد الفاسد يجب رده على صاحبه ولا يملك ،وقال صلى الله عليه وسلم للذي قال له : إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته ، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاه ووليدة، فقال صلى الله عليه وسلم : (( الوليدة والغنم ردّ عليك )) . وفيه دليل على أن من ابتدع في الدين بدعة لا توافق الشرع فإثمها عليه ،و عمله مردود عليه وإنه يستحق الوعيد ، وقد قال صلى عليه وسلم : (( من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله )).

والله تعالى أعلم ...

شاعرة الحرمان
06-02-2006, 11:41 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

السلام عليكم وحمه الله .

كنا توقفنا عند الحديث الخامس ، و الآن بعون الله نبدأ بحديث غاية في الأهمية هو الحديث السادس :

عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". (رواه البخاري ومسلم)

شرح وفوائد الحديث :

قوله صلى الله عليه وسلم (( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات .... الخ )) اختلف العلماء في حد الحلال والحرام ، فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: الحلال مادل الدليل على حله . وقال الشافعي رحمه الله : الحرام ما دل الدليل على تحريمه .

قوله صلى الله عليه وسلم (( وبينهما أمور مشتبهات )) أي بين الحلال والحرام أمور مشتبهة بالحلال والحرام ، فحيث انتفت الكراهة وكان السؤال عنه بدعة .وذلك إذا قدم غريب بمتاع يبيعه فلا يجب البحث عن ذلك ، بل ولا يستحب ،ويكره السؤال عنه .

قوله صلى الله عليه وسلم ((فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )) أي طلب براءة دينه وسلم من الشبهة . وأما براءة العرض فإنه إذا لم يتركها تطاول إليه السفهاء بالغيبة ونسبوه إلى أكل الحرام فيكون مدعاة لوقوعهم في الإثم وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقف مواقف التهم )).. وعن علي رضي الله عنه أنه قال : إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره ، وإن كان عندك اعتذاره، فرب سامع نكراً لا تستطيع أن تسمعه عذرا?ً.

وفي صحيح الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال ((إذا أحدث أحدكم في الصلاة فليأخذ بأنفه ثم لينصرف )) وذلك لئلا يقال عنه أحدث .

قوله عليه الصلاة والسلام (( فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام )) يحتمل أمرين : احدهما أن يقع في الحرام وهو يظن أنه ليس بحرام . والثاني : أن يكون المعنى قد قارب أن يقع في الحرام كما يقال : المعاصي بريد الكفر .لأن النفس إذا وقعت في المخالفة تدرجت من مفسدة إلى أخرى أكبر منها ،قيل : وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : { ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }. [آل عمران:112]. يريد أنهم تدرجوا بالمعاصي إلى قتل الأنبياء .

وفي الحديث (( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده )).

أي يتدرج من البيضة والحبل إلى نصاب السرقة ، والحمى ما يحميه الغير من الحشيش في الأرض المباحة فمن رعى حول الحمى يقرب أن تقع فيه ماشيته فيرعي فيما حماه الغير بخلاف ما إذا رعى إبله بعيداً من الحمى .واعلم أن كل محرم له حمى يحيط به ، فالفرج محرم وحماه الفخذان لأنهما جعلاً حريماً للمحرم ، وكذلك الخلوة بالإجنبية حمى للمحرم ، فيجب على الشخص أن يجتنب الحريم والمحرَّم، فالمحرم حرام لعينه، والحريم محرم لأنه يتدرج به إلى المحرم .

قوله صلى الله عليه وسلم (( ألا وإن في الجسد مضغة )) أي في الجسد مضغة إذا خشعت خشعت الجوارح، وإذا طمحت طمحت الجوارح وإذا فسدت فسدت الجوارح . قال العلماء : البدن مملكة والنفس مدينتها،و القلب وسط المملكة ،و الأعضاء كالخدام والقوى الباطنية كضياع المدينة ، والعقل كالوزير المشفق الناصح به ، والشهوة طالب أرزاق الخدام،و الغضب صاحب الشرطة ، وهو عبد مكار خبيث، يتمثل بصورة الناصح ونصحه سم قاتل ،و دأبه أبداً منازعة الوزير الناصح والقوة المخيلة في مقدم الدماغ كالخازن ، والقوة المفكرة في وسط الدماغ، والقوة الحافظة في آخر الدماغ ، واللسان كالترجمان ،و الحواس الخمس جواسيس ، وقد وكل كل واحد منهم بصنيع من الصناعات ، فوكل العين بعالم الألوان ، والسمع بعالم الأصوات ،وكذلك سائرها فإنها أصحاب الأخبار ، ثم قيل : هي كالحجبة توصل إلى النفس ما تدركه ، وقيل : إن السمع والبصر والشم كالطاقات تنظر منها النفس ، فالقلب هو الملك فإذا صلح الراعي صلحت الرعية وإذا فسد فسدت الرعية ، وإنما يحصل صلاحه بسلامته من الأمراض الباطنة كالغل والحقد والحسد والشح والبخل والكبر والسخرية والرياء والسمعة والمكر والحرص والطمع وعدم الرضى بالمقدور، وأمراض القلب كثيرة تبلغ نحو الأربعين ، عافانا الله منها وجعلنا ممن يأتيه بقلب سليم.

.........

غداً إن شاء الله نكمل معاً الحديث السابع


مع تحياتي

شاعرة الحرمان
06-02-2006, 11:43 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

السلام عليكم وحمه الله وبركاته ..


عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى". (رواه البخاري ومسلم)

شرح وفوائد الحديث


قوله صلى الله عليه وسلم (( أمرت... إلخ )) فيه دليل على أن مطلق الأمر وصيغته تدل على الوجوب.

قوله صلى الله عليه وسلم ((فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم )) ، فإن قيل : فالصوم من أركان الإسلام وكذلك الحج ولم يذكرهما ‍‍‍‍، فجوابه : أن الصوم لا يقاتل الإنسان عليه بل يحبس ويمنع الطعام والشراب ، والحج على التراخي، فلايقاتل عليه ، وإنما ذكر رسول الله صلى عليه وسلم هذه الثلاثة لأنه يقاتل على تركها ولهذا لم يذكر الصوم والحج لمعاذ حين بعثه إلى اليمن ، بل ذكر هذه الثلاثة ، خاصة ..

وقوله صلى الله عليه وسلم ((إلا بحق الإسلام )) فمن حق الإسلام فعل الواجبات ، فمن ترك الواجبات جاز قتاله كالبغاة ، وقطاع الطريق ، والصائل ، ومانع الزكاة ، والممتنع من بذله الماء للمضطر والبهيمة المحترمة . والجاني والممتنع من قضاء الدين مع القُدرة ، والزاني المحصن ،و تارك الجمعة والوضوء.

ففي تلك الأحوال يباح قتله وقتاله ، وكذلك لو ترك الجماعة ،وقلنا إنها فرض عين ، أو كفاية .

قوله صلى الله عليه وسلم (( و حسابهم على الله )) يعني من أتى بالشهادتين واقام الصلاة وآتى الزكاة عصم دمه وماله ، ثم إن كان فعل ذلك بنية خالصة صالحة فهو مؤمن ، وإن كان فعله تقية وخوفاً من السيف كالمنافق فحسابه على الله ، وهو متولي السرائر ،وكذلك من صلى بغير وضوء أو غسل من الجنابة ، أو أكل في بيته وادعى أنه صائم ، يقبل منه وحسابه على الله عز وجل والله أعلم.

شاعرة الحرمان
06-02-2006, 11:44 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته ..


عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم". (رواه البخاري ومسلم)

شرح وفوائد الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم (( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه )) أي اجتنبوه جملة واحدة لا تفعلوه ولا شيئاً منه ، وهذا محموله على نهي التحريم ، فأما نهي الكراهة فيجوز فعله ، وأصل النهي في اللغة : المنع .

قوله صلى الله عليه وسلم (( وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )) فيه مسائل : منها إذا وجد ماء للوضوء لا يكفيه فالأظهر وجوب استعماله ثم يتيمم للباقي . ومنها إذا وجد بعض الصاع في الفطرة فإنه يجب إخراجه . ومنها إذا وجد بعض ما يكفي لنفقة القريب أو الزوجة أو البهيمة فإنه يجب بذله . وهذا بخلاف ما اذا وجد بعض الرقبة فإنه لا يجب عتقه عن الكفارة ، لأن الكفارة لها بدل وهو الصوم .

وقوله صلى الله عليه وسلم (( فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم علىأنبيائهم )). اعلم ان السؤال على أقسام :

القسم الأول : سؤال الجاهل عن فرائض الدين كالوضوء والصلاة والصوم ، وعن أحكام المعاملة ونحو ذلك .

وهذا السؤال واجب وعليه حمل قوله صلى الله عليه وسلم (( طلب العلم فريضة على كل مسلم )) ومسلمة ، ولا يسع الإنسان السكوت عن ذلك قال تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } [النحل:43]، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إني أعطيت لساناً سؤولاً وقلباً عقولاً ، كذلك أخبر عن نفسه رضي الله تعالى عنه .

والقسم الثاني: السؤال عن التفقه في الدين سبحانه وتعالى :{ فلولا نفر َ مِنْ كُلَّ فرقةٍ منهم طائفة ، ليتفقهوا في الدين ولِينذِروا قومَهُمْ إذا رَجَعوا إليهم لعلهم يَحذَرون } [التوبة:122].

وقال صلى الله عليه وسلم (( ألا فليعلم الشاهد منكم الغائب )).

القسم الثالث : أن يسأل عن شيء لم يوجبه الله عليه ، ولا على غيره ، وعلى هذا حمل الحديث لأنه قد يكون في السؤال ترتب مشقة بسبب تكليف يحصل ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (( وسكت عن أشياء رحمة لكم فلا تسألوا عنها )) . وعن علي رضي الله عنه لما نزلت {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ً}. [آل عمران :97].

قال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه ، حتى أعاد مرتين أو ثلاثاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( وما يوشك أن أقول نعم ، والله لو قلت : نعم لو جبت ، ولو وجبت لما استطعتم ، فاتركوني ما تركتكم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن أمر فأجتنبوه )).

فإنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تَسُؤُكُم } [المائدة:101]. أي لم آمركم بالعمل بها ، وهذا النهي خاص بزمانه صلى الله عليه وسلم . أما بعد أن استقرت الشريعة ،و أمن من الزيادة فيها زال النهي بزوال سببه ،وكره جماعة من السلف السؤال عن معاني الآيات المشتبهة .

سئل مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى :{الرحمن على العرش استوى }[طه:5] فقال : الاستواء معلوم، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة وأراك رجل سوء أخرجوه عني .

والله أعلم ...

شاعرة الحرمان
06-02-2006, 11:46 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته ..


عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "إن الله تعـالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً)، وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا ربِّ يا ربِّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟". (رواه مسلم)


شرح وفوائد الحديث


قوله صلى الله عليه وسلم (( إن الله تعالى طيب )) ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول (( اللهم إني أسألك باسمك المطهر الطاهر ، الطيب المبارك الأحب إليك الذي إذا دعيت به أجبت ، وإذا سئلت به أعطيت ، وإذا استرحمت به رحمت ، واذا استفرجت به فرجت )) ، ومعنى الطيب : المنزه عن النقائص والخبائث ، فيكون بمعنى القدوس وقيل طيب الثناء ومسلتذ الأسماء عند العارفين بها : وهو طيب عباده لدخول الجنة بالإعمال الصالحة وطيبها لهم ، والكلمة الطيبة : لا إله إلا الله .

قوله صلى الله عليه وسلم (( لا يقبل إلا طيباً )) أي فلا يتقرب إليه بصدقة حرام ، ويكره التصدق بالرديء من الطعام كالحب العتيق المسوس ، وكذلك يكره التصدق بما فيه شبهة قال الله تعالى :{ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } [البقرة:267]. فكما أنه تعالى لا يقبل المال إلا الطيب كذلك لا يقبل من العمل إلا الطيب الخالص من شائبة الرياء والعجب والسمعة ونحوها .

قوله: فقال تعالى: { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً } [المؤمنون:51].وقوله تعالى :{ يا أيها الذين أمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم }[البقرة :172]. المراد بالطيبات الحلال.

في الحديث دليل على أن الشخص يثاب على ما يأكله إذا قصد به التقوي على الطاعة أو إحياء نفسه ،و ذلك من الواجبات ، بخلاف ما إذا أكل لمجرد الشهوة والتنعم .

قوله (( مطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام )) أي شبع ، وهو بضم الغين المعجمة وكسر الذال المعجمة المخففة من الغذي بالكسر والقصر ،و أما الغداء بالفتح والمد والدال المهملة : فهو عبارة عن نفس الطعام الذي يؤكل في الغداة ، قال الله تعالى :{ قال لفتاه آتنا غداءنا } [الكهف :62].

قوله ((فأنى يستجاب له )) أي استبعاداُ لقبوله إجابة الدعاء ،و لهذا شرط العبادي لقبول الدعاء أكل الحلال ، والصحيح أن ذلك ليس بشرط فقد استجاب لشر خلقه إبليس فقال :{إنك من المنظرين } [الأعراف:15].

شاعرة الحرمان
06-02-2006, 11:47 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته ..


عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وريحانته رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". (رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح)


شرح وفوائد الحديث



قوله صلى الله عليه وسلم ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) فيه دليل على أن المتقي ينبغي له أن لا يأكل المال الذي فيه شبهة ، كما يحرم عليه أكل الحرام ، وقد تقدم .

قوله : (( إلى ما لا يريبك )) أي اعدل إلى ما لا ريب فيه من الطعام الذي يطمئن به القلب وتسكن إليه النفس . والريبة : الشك وتقدم الكلام عن الشبهة.


والله أعلم ..

شاعرة الحرمان
06-02-2006, 11:48 PM
بسم الله الرحمن الرحيم .

السلام عليكم ورحمه الله ..


عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه". (حديث حسن رواه الترمذي وغيره هكذا)


شرح وفوائد الحديث


قوله صلى الله عليه وسلم (( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )) أي ما لا يهمه من أمر الدين والدنيا من الأفعال والأقوال . وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين سأله عن صحف إبراهيم قال (( كانت أمثالاً كلها ، كان فيها : أيها السلطان المغرور إني لم أبعثك لتجمع الأموال بعضها على بعض ولكن بعثتك لترد عن دعوة المظلوم فإني لا أردها ، ولوكانت من كافر. وكان فيها : على العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له أربع ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ،وساعة يتفكر في صنع الله تعالى ، وساعة يحدث فيها نفسه ، وساعة يخلو بذي الجلال والإكرام ، وإن تلك الساعة عون له على تلك الساعات، .و كان فيها : على العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله ، أن لا يكون ساعياً إلا في ثلاث : تزود لمعاد، ومؤنة لمعاش ،ولذة في غير محرم .وكان فيها : على العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون بصيراً لزمانه ، مقبلاً على شأنه . حافظاً للسانه، ومن حسب الكلام من عمله يوشك أن يقل الكلام إلا فيما يعنيه )) .

قلت : بأبي وأمي فما كان في صحف موسى ؟ قال (( كانت عبراً كلها ، كان فيها : عجباً لمن أيقن بالنار كيف يضحك ، وعجباً لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، وعجباً لمن رآى الدنيا وتقلبها بأهلها وهو يطمئن إليها ،و عجباً لمن أيقن بالقدر ثم هو يغضب ، وعجباً لمن أيقن بالحساب غداً وهو لا يعمل ))؟!.

قلت : بأبي وأمي هل بقي مما كان في صحفهما شيء؟ قال ((نعم يا أباذر { قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى* بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخِرُة خيرَّ وأبقى * إنَّ هذا لفي الصُّحُفِ الأولى * صحف إبراهيم وموسى } [الأعلى:14-19]. إلى آخر السورة .

قلت : بأبي وأمي أوصني ،قال (( أوصيك بتقوى الله فإنها رأس أمرك كله )) ،قال : قلت زدني ، قال (( عليك بتلاوة القرآن واذكر الله كثيراً فإنه يذكرك في السماء )) ، قلت زدني ، قال (( عليك بالجهاد فإنه رهبانية المؤمنين )) ، قلت زدني ، قال (( عليك بالصمت فإنه مطردة للشياطين عنك ، وعون لك على أمر دينك )) ، قلت زدني ، قال (( قل الحق ولو كان مراً )) ،قلت زدني ، قال (( لا تأخذك في الله لومة لائم ))، قلت :زدني، قال((صل رحمك وإن قطعوك ))، قلت: زدني ، قال : ((بحسب امرئ من الشر ما يجهل من نفسه ، ويتكلف ما لا يعنيه . يا أبا ذر : لا عقل كالتدبير ، ولا ورع كالكف، ولا حسن كحسن الخلق )).


والله اعلم

شاعرة الحرمان
06-02-2006, 11:51 PM
بسم الله الرحمن الرحيم .

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته ..

عن أبي حمزة أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". (رواه البخاري ومسلم)



شرح وفوائد الحديث




قوله صلى الله عليه وسلم (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) الأولى أن يحمل ذلك على عموم الأخوة ، حتي يشمل الكافر و المسلم، فيحب لأخيه الكافر ما يحب لنفسه من دخوله في الإسلام ، كما يحب لأخيه المسلم دوامه على الإسلام ،و لهذا كان الدعاء بالهداية للكافر مستحباً، و الحديث محمول على نفي الإيمان الكامل عمن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه . و المراد بالمحبة إرادة الخير و المنفعة، ثم المراد: المحبة الدينية لا المحبة البشرية ، فإن الطباع البشرية قد تكره حصول الخير وتمييز غيرها عليها ، و الإنسان يجب عليه أن يخالف الطباع البشرية ويدعو لأخيه و يتمنى له ما يحب لنفسه ،و الشخص متى لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه كان حسوداً .

والحسد كما قال الغزالي: ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأول : أن يتمنى زوال نعمة الغير وحصولها لنفسه .

الثاني : أن يتمنى زوال نعمة الغير وإن لم تحصل له كما إذا كان عنده مثلها أو لم يكن يحبها ، وهذا أشر من الأول .

الثالث: أن لا يتمنى زوال النعمة عن الغير ولكن يكره ارتفاعه عليه في الحظ والمنزلة ويرضى بالمساواةولا يرضى بالزيادة ،وهذا أيضاً محرم لأنه لم يرض بقسمة الله تعالى :{ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضَهُم فوق بعضٍ درجاتٍ ليتخذَ بعضُهًم بعضاً سخرياً ورحمةُ ربكَ خيرُُمما يجمعون } [الزخرف:32]. فمن لم يرض بالقسمة فقد عارض الله تعالى في قسمته وحكمته.وعلى الإنسان أن يعالج نفسه ويحملها علىالرضى بالقضاء ويخالفها بالدعاء لعدوه بما يخالف النفس.

والله أعلم ..

شاعرة الحرمان
06-02-2006, 11:53 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته ..


عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". (رواه البخاري ومسلم)



شرح وفوائد الحديث



قوله صلى الله عليه وسلم (( الثيب الزاني )) المراد : من تزوج ووطىء في نكاح صحيح ثم زنا بعد ذلك ، فإنه يرجم ، وإن لم يكن متزوجاً في حالة الزنا لاتصافه بالإحصان .

قوله صلى الله عليه وسلم (( والنفس بالنفس )) أي بشرط المكافأة فلا يقتل المسلم بالكافر ولا الحر بالعبد عند الشافعية ، لا الحنفية.

قوله صلى الله عليه وسلم (( والتارك لدينه المفارق للجماعة ))وهو المرتد والعياذ بالله تعالى ، وقد يكون موافقاً للجماعة كاليهودي إذا تنصر ، وبالعكس يقتل لأنه تارك لدينه غير مفارق للجماعة ، وفيه قولان ، أصحها : لا يقتل بل يلحق بالمأمن . والثاني :يقتل لأنه اعتقد بطلان دينه الذي كان عليه وانتقل إلى دين كان يرى بطلانه قبل ذلك ، وهو غير الحق فلا يترك بل إن لم يسلم يقتل ،وقد تقدم القتل أيضاً في صورة سبق الكلام عليها.


تحياتي

شاعرة الحرمان
06-02-2006, 11:54 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..


عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه". (رواه البخاري ومسلم)


شرح وفوائد الحديث


قوله صلى الله عليه وسلم (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )) قال الشافعي رحمه الله تعالى : معنى الحديث : إذا أراد أن يتكلم فليفكر ، فإن ظهر أنه لا ضرر عليه تكلم ، وإن ظهر أن فيه ضرر أو شك فيه أمسك. وقال الإمام الجليل أبو محمد ابن أبي زيد إمام المالكية بالمغرب في زمنه : جميع آداب الخير تتفرع من أربعة أحاديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )). وقوله صلى الله عليه وسلم (( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )) . وقوله صلى الله عليه وسلم : للذي اختصر له الوصية (( لا تغضب )). وقوله (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )).

ونقل عن أبي القاسم القشيري رحمه الله تعالى أنه قال : السكوت في وقته صفة الرجال ، كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال . قال : وسمعت أبا علي الدقاق يقول : من سكت عن الحق فهو شيطان أخرس .وكذا نقله في (( حلية العلماء )) عن غير واحد . وفي (( حلية الأولياء )) أن الإنسان ينبغي له أن لا يخرج من كلامه إلا ما يحتاج إليه ، كما أنه لا ينفق من كسبه إلا ما يحتاج إليه وقال : لو كنتم تشترون الكاغد للحفظة لسكتم عن كثير من الكلام . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (( من فقه الرجل قلة كلامه فيما لا يعنيه )) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (( العافية في عشرة أجزاء : تسعة منها في الصمت إلاَّ عن ذكر الله تعالى عز وجل )) .ويقال : من سكت فسلم ، كمن قال فغنم . وقيل لبعضهم: لم لزمت السكوت ؟ قال : لأن لم أندم على السكوت قط ،و قد ندمت على الكلام مراراً. ومما قيل: جرح اللسان كجرح اليد، وقيل : اللسان كلب عقور إن خلي عنه عقر .وروي عن على رضي الله عنه .

قوله صلى الله عليه وسلم (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه )).

قال القاضي عياض : معنى الحديث : أن من التزم شرائع الإسلام ، لزمه إكرام الضيف والجار . وقد قال صلى الله عليه وسلم(( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه )) . وقال صلى الله عليه وسلم (( من آذى جاره ملكه الله داره )). وقوله تعالى :{والجار ذي القربي والجار الجنب }[النساء:36].

الجار يقع على أربعة : الساكن معك في البيت . قال الشاعر: أجارتنا بالبيت إنك طالق

ويقع على من لاصق لبيتك، ويقع على أربعين داراً من كل جانب، ويقع على من يسكن معك في البلد ، قال الله تعالى :{ثم لا يجاورنك فيها إلا قليلاً }[الأحزاب:6] فالجار القريب المسلم له ثلاثة حقوق، والجار البعيد المسلم له حقان ، وغير القريب المسلم له حق واحد .

والضيافة من آداب الإسلام ،وخلق النبين والصالحين ،و قد أوجبها الليث ليلة واحدة ،واختلفوا : اهل الضيافة على الحاضر والبادي ، أم على البادي خاصة ؟ فذهب الشافعي ، ومحمد بن عبد الحكم إلى أنها على الحاضر والبادي .وذهب مالك وسحنون : إلى أنها على أهل البوادي ، لأن المسافر يجد في الحضر المنازل في الفنادق ومواضع النزول وما يشتري من الأسواق وقد جاء في حديث (( الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر )).

لكنه حديث موضوع.


والله أعلم ..

شاعرة الحرمان
10-02-2006, 05:16 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

السلام عليكم ورحمه الله ..

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً قال للنبي (صلى الله عليه وسلم) : أوصني، قال: "لا تغضب"، فردّد مراراً، قال: "لا تغضب". (رواه البخاري ومسلم)


شرح وفوائد الحديث



قوله صلى الله عليه وسلم (( لا تغضب )) معناه لاتنفذ غضبك ، وليس النهي راجعاً إلىنفس الغضب ، لأنه من طباع البشر ، ولا يمكن الإنسان دفعه .

وقوله عليه الصلاة والسلام (( إياكم والغضب فإنه جمرة تتوقد في فؤاد ابن آدم ، ألم تر إلى أحدكم إذا غضب كيف تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه ، فإذا أحس أحدكم بشيء من ذلك فليضجع أو ليلصق بالأرض )).

وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله علمني علماً يقربني من الجنة ويبعدني من النار قال (( لا تغضب ولك الجنة )). وقال صلى الله عليه وسلم (( إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما يطفىء النار الماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ )).

وقال أبو ذر الغفاري : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ،فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضجع )).

وقال عيسى عليه الصلاة والسلام ليحي بن زكريا عليه الصلاة والسلام : إني معلمك علماً نافعاً : لا تغضب . فقال : وكيف لي أن لا أغضب ؟قال إذا قيل لك ما فيك فقل : ذنب ذكرته أستغفر الله منه ، وإن قيل لك ما ليس فيك فاحمد الله إذ لم يجعل فيك ما عيرت به ، وهي حسنة سيقت إليك .

وقال عمرو بن العاص : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يبعدني عن غضب الله تعالى قال (( لا تغضب )).

وقال لقمان لأبنه : إذا أردت أن تؤاخي أخاً فأغضبه ، فإن أنصفك وهو مغضب ، وإلا فاحذره.


والله أعلم

شاعرة الحرمان
10-02-2006, 05:18 PM
الحديث السابع عشر

عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة؛ وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته". (رواه مسلم)


شرح وفوائد الحديث


قوله صلى الله عليه وسلم (( إن الله كتب الإحسان على كل شيء )) من جملة الإحسان عند قتل المسلم في القصاص أن يتفقد آلة القصاص ، ولا يقتل بآلة كالّة، و كذلك يحد الشفرة عند الذبح ،و يريح البهيمة ،و لا يقطع منها شيء حتى تموت ،و لا يحد السكين قبالتها ، وأن يعرض عليها الماء قبل الذبح ، ولا يذبح اللبون ، ولا ذات الولد ، حتى يستغني عن اللبن.و إن لا يستقصي في الحلب ، و يقلم أظفاره عند الحلب ، قالوا : ولا يذبح واحدة أمام أخرى.



والله أعلم

شاعرة الحرمان
10-02-2006, 05:19 PM
لسم الله الرحمن الرحيم ..

الحديث الثامن عشر ..

عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن". (رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح)


شرح وفوائد الحديث


قوله صلى الله عليه وسلم (( اتق الله حيثما كنت )) أي اتقه في الخلوة كما تتقيه في الجلوة بحضرة الناس ، واتقه في سائر الأمكنة والأزمنة. مما يعين على التقوى استحضار أن الله تعالى مطلع على العبد في سائر أحواله ، قال الله تعالى :{ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم يُنَبِّئُهم بما عملوا يوم القيامة إنّ الله بكل شيء عليم } [المجادلة:7]. والتقوى كلمة جامعة لفعل الواجبات وترك المنهيات .

وقوله صلى الله عليه وسلم (( وأتبع السيئه الحسنة تمحها )) أي إذا فعلت سيئة فاستغفر الله تعالى منها وافعل بعدها حسنة تمحها .

اعلم : أن ظاهر هذا الحديث يدل على أن الحسنة لا تمحو إلا سيئة واحدة ، وإن كانت الحسنة بعشر ، وأن التضعيف لا يمحو السيئه ، وليس هذا على ظاهره ، بل الحسنة الواحدة تمحو عشر سئيات . وقد ورد في الحديث ما يشهد لذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم ((تُكِّبرون دبر كل الصلاة عشراً وتحمدون عشراً وتُسبِّحون عشراً فذلك مَائة وخمسون باللسان وألف وخمسائة في الميزان )).

ثم قال صلى الله عليه وسلم (( أيكم يفعل في اليوم الواحد ألفاً وخمسمائة سيئة ))دل على أن التضعيف يمحو السيئات . وظاهر الحديث : أن الحسنة تمحو السيئة المتعلقة بحق الله تعالى ، أما السيئة المتعلقة بحق العباد من الغضب والغيبة والنميمة ، فلا يمحوها إلا الاستحلال من العباد ، ولا بد أن يعين له جهة الظلامة ، فيقول : قلت عليك كيت وكيت .

وفي الحديث دليل على أن محاسبة النفس واجبة ، قال صلى الله عليه وسلم (( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا )) . وقال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتَنظُر نفسُ ما قدمت لغد ٍ} [الحشر:18].

قوله صلى الله عليه وسلم (( وخالق الناس بخلق حسن )).. اعلم أن الخلق الحسن كلمة جامعة للإحسان إلى الناس ، وإلى كف الأذى عنهم ،قال صلى الله عليه وسلم (( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوه ا ببسط الوجه وحسن الخلق )).

وعنه صلى الله عليه وسلم (( خيركم أحسنكم أخلاقا ً)).

وعنه صلى الله عليه وسلم (( أن رجلاً أتاه فقال : يا رسول الله ما أفضل الأعمال ؟ قال (( حسن الخلق )) ، وهو على ما مر أن أن لا تغضب .

ويقال : اشتكى نبي إلى ربه سوء خلق امرأته ، فأوحى الله إليه : قد جعلت ذلك حظك من الأذى .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً ، وخيارهم خيارهم لنسائهم )) .

وعنه صلى الله عليه وسلم (( إن الله اختار لكم الإسلام ديناً فأكرموه بحسن الخلق والسخاء ، فإنه لا يكمل إلا بها )).

وقال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله تعالى : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } [الأعراف : 199].

قال في تفسير ذلك : أن تعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك وتعطي من حرمك.

وقال الله تعالى :{ اُدْفَعْ بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } [فصلت:34].

وقيل في تفسير قوله تعالى :{ وإنَّكَ لعلى خُلُقٍ عظيم } [القلم:4].

قال : كان خلقه القرآن ، يأتمر بأمره وينزجر بزواجره ، ويرضى لرضاه ، ويسخط لسخطه صلى الله عليه وسلم.


والله أعلم ..

شاعرة الحرمان
10-02-2006, 05:21 PM
بسم الله الرحمن الرحيم .

الحديث التاسع عشر ..

عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي (صلى الله عليه وسلم) يوماً، فقال لي: "يا غلام إني أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفـظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لـم ينفعـوك إلا بشيء قـد كتبـه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف". (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح)

وفي رواية غير الترمذي: "احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً".


شرح وفوائد الحديث


قوله صلى الله عليه وسلم (( احفظ الله يحفظك )) أي احفظ أوامره وامتثلها ، وانته عن نواهيه ، يحفظك في تقلباتكم ودنياك وآخرتك قال الله تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } [النحل:97]. وما يحصل للعبد من البلاء والمصائب بسبب تضييع أوامر الله تعالى ، قال الله تعالى :{وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم }[الشورى:30].

قوله صلى الله عليه وسلم (( تجده تجاهك )) أي أمامك ، قال صلى الله عليه وسلم (( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة )) وقد نص الله تعالى في كتابه: أن العمل الصالح ينفع في الشدة وينجي فاعله ، وأن عمل المصائب يؤدي بصاحبه إلى الشدة ، قال الله تعالى حكاية عن يونس عليه الصلاة والسلام : {فلو لا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } [الصافات :143-144]. ولما قال فرعون : {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } قال الملك: {الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } [يونس :90-91].

قوله صلى الله عليه وسلم (( إذا سألت فاسأل الله )) إشارة إلى أن العبد لا ينبغي له أن يعلق سره بغير الله ، بل يتوكل عليه في سائر أموره ، ثم إن كانت الحاجة التي يسألها لم تجر العادة بجريانها على أيدي خلقه : كطلب الهداية ، والعلم ، والفهم في القرآن والسنة ،وشفاء المرض ، وحصول العافية من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة ، سأل ربه ذلك . وإن كانت الحاجة التي يسألها جرت العادة أن الله سبحانه وتعالى يجريها على أيدي خلقه ، كالحاجات المتعلقة بأصحاب الحرف والصنائع وولاة الأمور ، سأل الله تعالى أن يعطف عليه قلوبهم فيقول : اللهم حنن علينا قلوب عبادك وإمائك ، و ما أشبه ذلك ، ولا يدعو الله تعالى باستغنائه عن الخلق لأنه صلى الله عليه وسلم سمع علياً يقول : اللهم اغننا عن خلقك فقال (( لا تقل هكذا فإن الخلق يحتاج بعضهم إلى بعض ، ولكن قل : اللهم اغننا عن شرار خلقك )) وأما سؤال الخلق والاعتماد عليهم فمذموم ، ويروى عن الله تعالى في الكتب المنزلة : أيقرع بالخواطر باب غيري وبابي مفتوح ؟ أم هل يؤمل للشدائد سواي وأنا الملك القادر ؟ لأكسونَّ من أمل غيري ثوب المذلة بين الناس ... الخ .

قوله (( واعلم أن الأمة )) الخ ، لما كان قد يطمع في بر من يحبه ويخاف شر من يحذره ، قطع الله اليأس من نفع الخلق بقوله :{وإن يمسسك الله بُضرٍ فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله }[يونس:107]. ولا ينافي هذا كله قوله تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام : {فأخاف أن يقتلون }[الشعراء:14]. [والقصص:33]. وقوله تعالى :{إنّنا نخافُ أن يفرطَ علينا أو أنْ يَطْغى } [طه:45]. وكذا قوله: { خذوا حذركم } [النساء:71] إلى غير ذلك.

بل السلامة بقدر الله ، والعطب بقدر الله ، والإنسان يفر من أسباب العطب إلى أسباب إلى أسباب السلامة ، قال الله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلُكة }[البقرة:195].

قوله صلى الله عليه وسلم ((واعلم أن النصر مع الصبر )) قال صلى عليه وسلم (( لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا ولا تفروا ، فإن الله مع الصابرين )).. وكذلك الصبر على الأذى في موطن يعقبه النصر.

قوله صلى الله عليه وسلم (( وأنّ الفرج مع الكرب )) والكرب هو شدة البلاء ، فإذا اشتد البلاء أعقبه الله تعالى الفرج كما قيل : اشتدي أزمة تنفرجي.

قوله صلى الله عليه وسلم (( وأن مع العسر يسراً )) قد جاء في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال (( لن يغلب عسر يسرين )) وذلك أن الله تعالى ذكر العسر مرتين وذكر اليسر مرتين ، لكن عند العرب أن المعرفة إذا أعيدت معرفة توحدت لأن اللام الثانية للعهد ، واذا أعيدت النكرة تعددت فالعسر ذكر مرتين معرفاً ، واليسر مرتين منكراً فكان ، اثنين فلهذا قال صلى الله عليه وسلم (( لن يغلب عسر يسرين )).


والله أعلم

شاعرة الحرمان
10-02-2006, 05:22 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

الحديث العشرين
عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت". (رواه البخاري)



شرح وفوائد الحديث



قوله صلى الله عليه وسلم (( اذا لم تستح فاصنع ما شئت )) معناهُ: إذا أردت فعل شيء ، فإن كان مما لا تستحي من فعله من الله ، ولا من الناس فافعله ، وإلا فلا. وعلى هذا الحديث يدور مدار الإسلام كله ، وعلى هذا يكون قوله صلى الله عليه وسلم ((فاصنع ما شئت )) أمر إباحة ، لأن الفعل إذا لم يكن منهياً عنه شرعاً كان مباحاً.

ومنهم من فسر الحديث بأنك إذا كنت لا تستحي من الله ولا تراقبه فاعط نفسك مناها وافعل ما تشاء ، فيكون الأمر فيه للتهديد لا للإباحة ، ويكون كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم }[فصلت:40]. وكقوله تعالى: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورَجلكَ وشارِكهُمْ في الأموال والأولاد وعِدْهُم وما يعدهم الشيطانُ إلا غروراً }[الإسراء:64].

شاعرة الحرمان
10-02-2006, 05:24 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..
الحديث الواحد والعشرون

عن أبي عمرو، وقيل أبي عمرة سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: "قل آمنت بالله ثم استقم". (رواه مسلم)


شرح وفوائد الحديث


قوله صلى الله عليه وسلم (( قل آمنت بالله ثم استقم ))أي كما أمرت ونهيت ، والاستقامة ملازمة الطريق بفعل الواجبات وترك المنهيات ، قال الله تعالى :{فاستقم كما أمرت ومن تاب معك }[هود:112].وقال الله تعالى :{إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة }[فصلت:30]. أي عند الموت تبشرهم بقوله تعالى: {لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنت توعدون }[فصلت:30].

وفي التفسير أنهم إذا بشروا بالجنة قالوا: وأولادنا ما يأكلون وما حالهم بعدنا؟ فيقال لهم : {نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة }.[فصلت:31]أي نتولى أمرهم بعدكم، فتقر بذلك أعينهم.


والله أعلم

شاعرة الحرمان
10-02-2006, 05:25 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

الحديث الثاني والعشرون
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته ..

حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- وهو الحديث الثاني والعشرون من هذه الأحاديث النووية، قال -رضي الله عنه-: أن رجلا سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: نعم .

في هذا الحديث ذكر بعض العبادات وهي: عبادة الصلاة والصيام، وإحلال الحلال وتحريم الحرام. وقد جاء في روايات أخر قد تكون هي أصل هذا الحديث: أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله عن أمور الإسلام، فقال الرجل للنبي -عليه الصلاة والسلام-: أتانا رسولك يزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، آلله أرسلك؟ قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: نعم. فقال: أتانا رسولك يزعم أنك تزعم أن الله افترض علينا خمس صلوات… إلى آخره.

في آخره: قال الرجل للنبي -عليه الصلاة والسلام-: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا شيئا. فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: دخل الجنة إن صدق وفي رواية: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا وهناك روايات أخر في مجيء أعرابي للنبي -صلى الله عليه وسلم- في ذكر الفرائض: الصلاة والصيام والزكاة والحج.

وهذه الأحاديث تدل على أن من فعل هذه الواجبات ممتثلا متقربا بها إلى الله -جل وعلا- فصلى الصلوات المكتوبة مطيعا لله -جل وعلا-، وصام وزكى مطيعا لله، وحج مطيعا لله، وأحل الحلال مطيعا لله، وحرم الحرام مطيعا لله، أنه من أهل الجنة.

والأحاديث متعددة في ذلك: بعضها يرتب ثواب الجنة على كلمة التوحيد، وبعضها يرتب ثواب الجنة على الصلاة، وبعضها يرتب ثواب الجنة على الصيام، في ألفاظ مختلفة وروايات متعددة.

الحاصل: أن هذه الروايات التي فيها ترتيب دخول الجنة على بعض الأعمال الصالحة -المقصود بها أنها إذا فعلت مع اجتماع الشروط، وانتفاء الموانع، أو إذا فعلت هذه الأفعال مع الإتيان بالتوحيد. فهذان احتمالان -كما ذكرت لك- الأول: أنها مع اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، والثاني: أنه مع الإتيان بالتوحيد؛ لأنه به تصح الصلاة، وتقبل الزكاة، ويصح الصيام… إلى آخره.

وهذا معناه: أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: "نعم" أو دخل الجنة إن صدق أن دخول الجنة متنوع، وهذا الظاهر دلت عليه الأدلة الأخرى، فما جاءت النصوص في ترتب دخول الجنة على بعض الأعمال فهو حق على ظاهره، وأن من أتى بالتوحيد وعمل بالأعمال الصالحة -بأي عمل- فإنه موعود بالجنة، والله -جل وعلا- وعده: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا .

ودخول الجنة في النصوص: تارة يراد به الدخول الأوَّلي، وتارة يراد به الدخول المآلي، وهذا في الإثبات، يعني: إذا قيل دخل الجنة فقد يراد بالنص أنه يدخلها أولا -يعني: مع من يدخلها أولا- ولا يكون عليه عذاب قبل ذلك فيغفر له إن كان من أهل الوعيد، أو يكفر الله -جل وعلا- عنه خطاياه… إلى آخر ذلك.

أو يكون المقصود بـ "دخل الجنة" أن الدخول مآلي، بمعنى: أنه سيئول إلى دخول الجنة كقوله -عليه الصلاة والسلام-: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة من صلى الصلوات المكتوبات كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة يدعى الصائمون يوم القيامة من باب الريان .

وهكذا في أحاديث -كما ذكرت لك- متنوعة؛ فإذن الأحاديث التي فيها دخول الجنة بالإثبات: تارة يراد منها الدخول الأولي، وتارة يراد منها الدخول المآلي، ويترتب على هذا النفي، فإذا نفي دخول الجنة عن عمل من الأعمال يراد به نفي الدخول الأولي، أو نفي الدخول المآلي، والذي ينفى عنه الدخول الأولي هم أهل التوحيد الذين لهم ذنوب يطهرون منها إن لم يغفر الله -جل وعلا- لهم.

وأما الذين ينفى عنهم الدخول المآلي -يعني: لا يدخلونها أولا ولا مآلا، لا يؤولون إلى الجنة أصلا- فهؤلاء هم أهل الكفر في الأول: مثلا قوله -عليه الصلاة والسلام-: لا يدخل الجنة قتات لا يدخل الجنة قاطع رحم لا يدخل الجنة نمام وأشباه ذلك.

فهذه فيها أنه لا يدخل الجنة، هل معناه أنه لا يدخلها أبدا؟ لا، لا يدخلها أولا، وفي بعض النصوص نفي دخول الجنة الدخول المآلي، يعني: أنهم لا يئولون إلى الجنة أصلا بل مأواهم النار خالدين فيها، كقوله -جل وعلا-: وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وكما في قوله -جل وعلا-: فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ .

إذن فتحصل لنا كقاعدة عامة من قواعد أهل السنة في فهم آيات وأحاديث الوعيد: أن الآية أو الحديث إذا كان فيه إثبات دخول الجنة على فعل من الأفعال فإن هذا الإثبات ينقسم إلى: دخول أولي، بمعنى: أنه يغفر له فلا يؤاخذ، أو أنه ليس من أهل الحساب، أو أن الله -جل وعلا- خفف عنه فيدخلها أولا، أو أنه ليس من أهل الدخول المآلي، أو أنه من أهل الدخول المآلي.

وهكذا عكسها أنه لا يدخلها أولا، أو لا يدخلها أولا ومآلا على حد سواء، وهذا من القواعد المهمة عند أهل السنة التي خالفوا بها الخوارج والمعتزلة … إلى آخره.

إذا تقررت هذه القاعدة فهذا الحديث فيه ذكر دخول الجنة على أنه لا يزيد على هذه شيئا، ولم يذكر في ذلك أنه فعل الزكاة، ولا أنه أتى بالحج، ومن ترك الزكاة فهو من أهل الوعيد، ومن ترك الحج فهو من أهل الوعيد… وهكذا.

فإذا تقرر هذا فقوله: ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: نعم محمول على أحد توجيهين:

الأول: أنه في قوله: لم أزد على ذلك شيئا يعني: أنه فعل الواجبات التي أوجب الله -جل وعلا- فتدخل الواجبات في قوله: "حرمت الحرام"؛ لأن ترك الواجبات حرام، فهو إذا حرم ترك المحرمات، معناه: أنه فعلها.

والتوجيه الثاني:أن هذا الحديث يفهم مع غيره من الأحاديث كقاعدة أهل السنة في نصوص الوعد والوعيد، وأننا لا نفهم نصا من نصوص الوعد أو من نصوص الوعيد على حدته، بل نضمه إلى أشباهه فيتضح المقام، فيكون إذن دخوله الجنة مع وجود الشروط وانتفاء الموانع.

أو يقال: دخول الجنة هنا مع الاقتصار على ما ذكر دخولا مآليا، وإذا أتم فإنه يدخل دخولا أوليا، ولا بد أنه إذا كان على ذلك النحو فإنه من أهل الجنة؛ لأن الله -جل وعلا- هو الذي وعده بذلك وبلغه رسوله -عليه الصلاة والسلام- قوله: إذا صليت المكتوبات تدل على تعلق ذلك بالصلوات الخمس، وهذا يخرج النوافل.

كذلك قوله: صمت رمضان تعلقه بالشهر الواجب، وهذا يخرج النوافل، وقوله: وأحللت الحلال هذا اختلف فيها العلماء على قولين: القول الأول: هو الذي ذكره النووي في آخر ذكره للحديث حيث قال: "ومعنى أحللت الحلال: فعلته معتقدا حله" فهذا وجه عند أهل العلم؛ لأن معنى أحللت الحلال أنه اعتقد وفعل.

والوجه الثاني: أنه اعتقد ولم يفعل، فمعنى قوله: أحللت الحلال يعني: اعتقدت حل كل ما أحله الله -جل وعلا- وليس في نفسي اعتراض على ما أحل الله -جل وعلا-، وهذا أحد المعنيين.

والمعنى الأول الذي ذكره النووي: أن إحلال الحلال يقتضي أن تفعل، أو أن تعمل، أو أن تأتي الحلال الذي أحله الله -جل وعلا- لك، وألا تستنكف عنه -بمعنى: أن من حرم على نفسه شيئا من الحلال مطلقا فإنه لم يحل الحلال فعلا-؛ وهذا المعنى ليس بجيد عندي؛ لأن فعل كل حلال ممتنع قد لا يستطيعه كل أحد؛ لأن الحلال -ولله الحمد- كثير جدا والمباحات كثيرة، فإتيانه فعله باعتقاد حله هذا صعب، ومثل هذا الرجل السائل لا يعلق بكل شيء، وهذا أيضا مما يكون في غير الاستطاعة.

والوجه الثاني الذي ذكرناه من أن قوله: "أحللت الحلال" -يعني: اعتقدت حله- فلم يأت في نفسي ريب من أن ما أحل الله جل وعلا فهو حلال، فهذا ظاهر طيب -يعني: ظاهر من الحديث حسن- وهو أولى؛ لأنه لا يلزم عنه لوازم غير جيدة.

أما قول الرجل: حرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئا أأدخل الجنة ؟ فقال: نعم فتحريم الحرام يشمل المرتبتين: يشمل الاعتقاد والترك: فتحريم الحرام أن تعتقد حرمته، والثانية: أن تفعل ما اعتقدته من ترك المحرمات. فمن اعتقد حرمة الحرام وفعل فهو من أهل الوعيد -يعني: من أهل العصيان-، وأما من لم يعتقد حرمة الحرام فهو كافر ؛ لأنه ما صدق الله -جل وعلا- في خبره، أو لأنه اعتقد غير ما أمر الله -جل وعلا- باعتقاده.

فإن الاعتقاد بتحريم المحرمات فرض من الفرائض، وعقيدة لا بد منها؛ لأن معناه الالتزام بأمر الله -جل وعلا-، وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والنهي نهي الله ونهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.


والله أعلم ..

شاعرة الحرمان
10-02-2006, 05:28 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

وعن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها رواه مسلم


--------------------------------------------------------------------------------


هذا الحديث -وهو الحديث الثالث والعشرون- حديث عظيم جدا، وألفاظه جوامع كلم للمصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وهو من الأحاديث التي تهز النفس، وتدخل القلب بلا استئذان -يعني: أن فيه ما يرقق القلب، ويحمل على الطاعة بتأثيره على كل نفس- وألفاظه تدل عليه.

فقد قال -صلى الله عليه وسلم- فيه: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو قال تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها .

وهذه ألفاظ عظيمة للغاية، واشتملت على أحكام كثيرة ووصايا عظيمة دخلت في أبواب كثيرة من أبواب الدين، فقوله في أوله -عليه الصلاة والسلام-: الطُهور شطر الإيمان الطهور المقصود به الطهارة، التطهر؛ فإن صيغة فعول المقصود منها الفعل -يعني: ما يفعل- فالطهور هو التطهر كما أن الفطور هو فعل الإفطار، والسحور هو الفعل نفسه… وهكذا.

بخلاف الطَهور -بالفتح-: فإنه ما يتطهر به -يعني: الماء يسمى طهور-، وأكلة السحر تسمى سَحور -بالفتح- ، والفطور يسمى فَطور -بالفتح- إذا كان المراد الذي يؤكل، أما الفعل نفسه فهو طهور للطهارة، وسحور للتسحر وهكذا، فقوله عليه الصلاة والسلام هنا: الطُهور يعني: التطهر.

وهذا اختلف فيه العلماء على قولين:

الأول: أن المراد بالطهور هنا: التطهر من النجاسات المعنوية، أو مما ينجس القلب والروح والجوارح من الشرك والرياء، وفعل المحرمات وترك الواجبات وأشباه ذلك. وهذا أخذوه من قول الله -جل وعلا-: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ على أحد تفسيرين، فإن التطهير هنا فسر بأن المقصود به التطهير من الشرك والنجاسات المعنوية.

وفسر أيضا قوله -جل وعلا-: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ بالامتناع عن فعل الفاحشة، وهذا التفسير له مأخذه من القرآن، وظاهر دليله من أن الطهارة هنا المقصود منها: طهارة القلب، وطهارة الجوارح واللسان من المحرمات، أو من ترك الواجبات.

وكونها على هذا المعنى شطر الإيمان؛ لأن الطهارة ترك والإيمان قسمان: فعل وترك، فصارت الطهارة بالمعنى هذا شطر الإيمان -يعني: نصفه-؛ لأنه إما أن تترك أو تفعل، فإذا طهرت نفسك وجوارحك -يعني: جعلتها طاهرة مما حرم الله -جل وعلا- في القلب واللسان والجوارح- فقد أتيت بما هو نصف الإيمان وهو الترك فيبقى الأمر.

وهنا نقول: لماذا نبه على الترك ولم ينبه على الفعل وهو الإتيان بالواجبات؟ الجواب: أن الترك أعظم؛ فإن ترك المحرمات أعظم من الإتيان بالواجبات لهذا؛ تجد أن كثيرين يأتون بالواجبات، ولا يصبرون عن المحرمات -نسأل الله العافية والسلامة-، ومن يترك المحرمات فإنه يسهل عليه أن يأتي بالواجبات.

الوجه الثاني من كلام أهل العلم -يعني: التفسير الثاني-: أن الطهور هنا المقصود به الطهارة بالماء أو بما هو بدل الماء، والطهارة تكون: طهارة كبرى ، أو صغرى -يعني: غسل الجنابة أو غسل المرأة من الحيض والنفاس، أو الطهارة الصغرى بالتطهر للصلاة، وهنا جعلها شطر الإيمان؛ لأن الله -جل وعلا- جعل الصلاة إيمانا فقال: جل وعلا: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ يعني: صلاتكم.

حين توجهوا إلى القبلة بعد بيت المقدس، فقال طائفة من المسلمين كيف: بأمر الذين صلوا إلى بيت المقدس، ولم يدركوا الصلاة إلى الكعبة ؟ فأنزل الله -جل وعلا- قوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ يعني: صلاتكم، والصلاة مفتاحها التطهر؛ فإنها لا تصح إلا بالطهارة، فلها شروط قبلها، ولها واجبات وأركان فيها -يعني: في الصلاة- فما قبلها أعظمه في فعل العبد الطهارة؛ فصارت شطرا بهذا الاعتبار.

فيكون إذن قوله: الطهور شطر الإيمان يعني: التطهر شطر الإيمان الذي هو الصلاة؛ لأن الصلاة رأس أعمال الإيمان.

وهناك تفسيرات أخر لأهل العلم -يعني: اختلفوا في هذا اختلافا كثيرا- لكن هذان قولان مشهوران في هذا المقام ، قال -عليه الصلاة والسلام-: والحمد لله تملأ الميزان "الحمد لله" الحمد هذه كلمة فيها إثبات الكمالات؛ لأن حمد بمعنى أثنى على غيره بما فيه من صفات الكمال، فحمد لفلان صنيعه يعني: أثنى عليه بصفات كمل فيها بما يناسب البشر؛ لأجل صنيعه، ومنه يدخل في الحمد بهذا الاعتبار أنه يثني عليه شاكرا له، يعني: باللسان.

فالحمد لله معناها الثناء على الله -جل وعلا- بإثبات صفات الكمال له -جل جلاله-، فالحمد على هذا يدخل فيه حمد الله وهو الثناء عليه، على ما اتصف به من صفات الكمال والجلال والجمال، حمد لله على ربوبيته -يعني: على اسمه الرب-، وعلى وصف الربوبية له، وحمد لله -جل وعلا- على إلهيته، وعلى أنه الإله، وحمد لله -جل وعلا- على أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وكماله، وحمد لله -جل وعلا- على القرآن على كلامه، وحمد لله -جل وعلا- على أمره الكوني والقدري وحكمه في بريته، وحمد لله -جل وعلا- على أمره الشرعي.

فالحمد في نصوص الكتاب والسنة تكتنفه هذه الأنواع الخمسة التي ذكرنا؛ ولهذا تجد أنه في القرآن يأتي الحمد متعلقا بأحدها -بأحد هذه الخمسة لا غير- انظر مثلا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تعلق بالربوبية: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ فهذا أيضا في الربوبية، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وهكذا في نصوص كثيرة في الكتاب والسنة.

فإذن الحمد إثبات الكمالات إثبات نعوت الجلال والكمال، وهذا مستغرق فيه جميع الأنواع لله -جل وعلا-؛ لأن كلمة "ال" هذه الحمد لله "ال" التي تسبق "حمد" هذه للاستغراق، استغراق جميع أنواع الحمد؛ لأنها دخلت على مصدر حمد يحمد حمدا، فقوله -جل وعلا-: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يعني: جميع أنواع المحامد مستحقة لله -جل وعلا-.

واللام هنا في قوله لله: الْحَمْدُ لِلَّهِ يعني: الحمد المستحق لله -جل وعلا- الذي أُثني به على الله -جل وعلا- يملأ الميزان، فإذا قال العبد: الحمد لله فإن هذه تملأ الميزان، كما جاء في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري وغيره، أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم .

فالحمد إثبات، وكما سيأتي في: "سبحان الله والحمد لله" أن الحمد والتسبيح متلازمان، وقوله هنا -عليه الصلاة والسلام-: تملأ الميزان على قاعدتنا: أن الملء هنا على ظاهره حسي وليس ملئا معنويا، كما قاله طائفة، وهذا نوع من التأويل؛ لأن الدخول في الأمور الغيبية بما لا يوافق ظاهر اللفظ هذا نوع من التأويل المذموم.

فإذن نقول: الحمد لله تملأ الميزان على ظاهرها، وهو أن الله -جل وعلا- يأتي بهذه الكلمة فيملأ بها الميزان، والله -جل وعلا- يوم القيامة يجعل في الميزان الأعمال فيزنها، فتكون الأعمال التي هي أقوال واعتقادات وحركات تكون في الميزان، فيثقل بها ويخف بها ميزان آخرين، فإذن على ظاهرها أن "الحمد لله" هذه تملأ الميزان.

وهنا نظر أهل العلم في قوله: تملأ الميزان لماذا صارت تملأ على تفسيرين:

الأول: أن تملأ نفهم منه أنها لا توضع أولا، يعني: لا يؤتى بالحمد أولا فتوضع في الميزان، وإنما الذي يؤتى الأعمال يؤتى بالأعمال فتوضع في الميزان، فيؤتى بالحمد فتملأ الميزان، هذا تفسير.

والتفسير الثاني:أن الإيمان والدين نصفان، نصف تنزيه ونصف إثبات الكمالات، والتنزيه فيه التسبيح، التنزيه تنزيه الرب -جل وعلا- عن النقص في ربوبيته، أو في إلهيته، أو في أسمائه وصفاته... إلى آخره.

هذا فيه إبعاد عن النقائص، والحمد إثبات للكمالات، فإذا وضعت "سبحان الله" أولا -فالحمد لله تأتي ثانيا فتملأ الميزان، ونفهم من قوله -عليه الصلاة والسلام-: ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم أن التسبيح أكثر من جهة وضعه في الميزان؛ فيكون الحمد تتمة لذلك.

وقد يتأيد هذا بشيء، وهو أن التسبيح -المعاني يطول ذكرها، لكن نذكر بعض فائدة- يختلف عن الحمد، وهو أن التسبيح فيه تخلية، ومعلوم أن التخلية بلا شيء يوضع محلها أنها ليست محمودة، بمعنى: أنه إذا قال أحد: أنا سأخلي هذا المسجد مما فيه من الأشياء، والدواليب والفرش ونحو ذلك. لم يكن محمودا بفعله إلا إذا قال وآتي بغيره مما هو أحسن منه فأضعه فيه.

فالتسبيح تنزيه، والتنزيه قد يكون ناتجا عن قصور في إثبات الكمالات لله -جل وعلا- فيقول: إن الله -جل وعلا- منزه عن كذا، ومنزه عن كذا، ومنزه عن كذا، ثم لا يصفه -جل وعلا- بشيء؛ فلهذا كان التسبيح والحمد متكاملان، فالتسبيح تخلية، والحمد بالنسبة للقلب تحلية، والتخلية تسبق التحلية كما هو مقرر في علوم البلاغة.

فإذن جاء التسبيح في نصوص كثيرة مضافا إلى الله -جل وعلا- بمعنى: سلب النقائص ونفي النقائص عن الله -جل وعلا- في ربوبيته وإلهيته، وأسمائه وصفاته ، وفي قدره وأمره الكوني ، وفي شرعه وحكمه الديني ، في هذه الخمسة تقابل بها الخمسة التي فيها إثبات الكمالات في الحمد، فكل واحدة منها نزهت عن الله -جل وعلا- جاء الحمد بإثبات الكمال اللائق بالله -جل وعلا- محلها.

وهذا لو فقهه العبد لكان: سبحان الله والحمد لله في لسانه أعظم من أي شيء يشتغل به عنها من غير ذكر الله -جل وعلا- والقرآن العظيم، فإذن هذه الكلمة خفيفة: سبحان الله والحمد لله لكنها عظيمة؛ لأن فيها الاعتقاد الصحيح في الله -جل وعلا- بجميع الجهات: ففيها الربوبية والإلهية، والأسماء والصفات، وفيها إثبات تحليل الحلال وتحريم الحرام، وفيها الاعتقاد الحسن في القدر، وفيها الاعتقاد الحسن فيما يتصرف الله -جل وعلا- به في ملكوته... إلى آخر ذلك من المعاني.

لهذا قوله -عليه الصلاة والسلام-: والحمد لله تملأ الميزان يكون هنا الملء بعد التنزيه وهو التسبيح، قال: وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض سبحان الله يعني: تنزيها لله -جل وعلا- عن النقائص في ربوبيته وإلهيته، وأسمائه وصفاته، وشرعه ودينه، وعن أمره الكوني وقدره، والحمد لله إثبات الكمالات لله -جل وعلا- فهما متكاملان.

قال: تملأ أو قال تملآن ما بين السماء والأرض إذا كان اللفظ "تملآن" فكل واحدة على اعتبار، وإذا كان اللفظ المحفوظ "تملأ" وهو الأظهر: تملأ ما بين السماء والأرض فإن "سبحان الله والحمد لله" كلمة واحدة؛ لأن مدلولها واحد، وهو كما ذكرنا التنزيه والإثبات.

قوله: تملأ ما بين السماء والأرض ما المقصود بذلك ؟ إذا أطلق لفظ السماء هنا فالمقصود به السماء الدنيا ، والسماء تطلق في النصوص ويراد بها العلو بعامة: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ يعني: في العلو: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ يعني: من في العلو... وهكذا.

فإذا أطلق لفظ "السماء" وحده -يعني: بلا السماوات مفرد- فإنه قد يراد به العلو، وقد يراد به واحدة السماوات وهي السماء الدنيا، وخاصة إذا جعل أو قوبل بالأرض، فقوله هنا: تملأ ما بين السماء والأرض يعني: أنها تملأ هذا الفراغ الكبير الذي بين الأرض وما بين السماء؛ لما لعظم هذه الكلمة، ولمحبة الله -جل وعلا- لها، ولحمل الملائكة لها تقربا إلى الله -جل وعلا-.

قال: والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء هذه الثلاثة: الصبر، والصدقة، والصلاة، اقترنت هنا بثلاثة أنواع من أنواع النور والضياء والبرهان، فدرجات النور -يعني: درجات ما تحسه العين من الأنوار- ثلاث: نور، وبرهان، وضياء، فأولها النور، ويليها البرهان، والثالث الضياء.

فالقمر نور: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَالْقَمَرَ نُورًا فالقمر يوصف بأنه نور وهو: الذي يعطي الإضاءة بلا إشعاع -يعني: بلا إشعاع محسوس-، والبرهان: أشعة بلا حرارة، أعظم درجة من النور، وأقل درجة من الضياء، وأما الضياء: فهو النور الشديد، نور مسلط شديد يكون معه حرارة.

فهذه ثلاث مراتب من أنواع الأضواء، وإذا نظرت لذلك وجدت قوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء مرتب على أجمل ما يكون من الترتيب، فإن الصلاة سبقت الصدقة؛ ولهذا سبق النور البرهان، والصبر لا بد منه للصلاة وللصدقة ولكل الطاعات، ولكن الصبر محرق كشدة حرارة الضياء، فالضياء نور قوي فيه حرارة ونوع إحراق.

فلهذا جعل الصبر ضياء، ولم يجعل الصلاة ضياء، لكن الصلاة نور؛ لأنه فيها إعطاء ما تحتاجونه براحة وطمأنينة، والصدقة جعلها برهانا؛ لأن البرهان وهو: الضياء الذي يكون معه أشعة تنعكس في العين، الصدقة فيها إخراج المال، وهو محبوب للنفس، وهذا يحتاج إلى شيء من المعاناة، والصبر: فهو ضياء كما قال -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن معه المعاناة.

وتذكرون في قول الله -جل وعلا- في وصف القرآن بأنه نور، وصف الله -جل وعلا- القرآن بأنه نور: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ فوصف القرآن أيضا في آيات أخر بأنه نور، والتوراة مثلا وصفها الله -جل وعلا- بأنها ضياء.

وتعلمون، الحق كلام المفسرين على ذلك حيث قالوا: إن التوراة فيها آصار وأغلال على بني إسرائيل؛ ولهذا سماها الله -جل وعلا- ضياء مناسبة ما بين الضياء ووجود التكاليف العظام على بني إسرائيل: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا الآيات في آخر سورة النساء.

فقال -جل وعلا-: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً فجعل التوراة ضياء؛ لأن فيها هذه الشدة، فالصبر ضياء؛ لأن من تحمل شدة الصبر فإنه يقوى معه الضياء، فالصبر مشبه بالضياء، وأيضا أثره أنه يكون معك الضياء، وهذه الثلاثة أنت محتاج إليها يوم القيامة أشد الحاجة، حين تكون الظلمة دون الجسر ويعبر الناس على الصراط، حيث اليوم العصيب والأمر المخيف.

فمعك الصلاة وهي نور، ومعك الصدقة وهي برهان، ومعك الصبر وهو ضياء، تنقل به إلى رؤية الأمكنة البعيدة أو المسافات البعيدة -أعاننا الله -جل وعلا- على قربانه يوم القيامة- بهذا يظهر لك عظم قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وجوامع كلمه -عليه الصلاة والسلام-.

والصبر -كما هو معلوم- ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر على المعصية، وصبر على أقدار الله المؤلمة، والصبر: هو الحبس -يعني: حبس الجوارح والقلب على الطاعات، وحبسها عن المعاصي، وحبسها على الرضا بأقدار الله -جل وعلا- المؤلمة.

والكلام في تفاصيل الصبر تأخذونه من شرح "باب التوحيد" أو من مظانه، قد ذكرناه مرارا؛ لأن فيه تفاصيل يطول المقام ببسطها.

قال: والقرآن حجة لك أو حجة عليك القرآن حجة لك إذا تلوته حق تلاوته -بمعنى: تلوته فآمنت بمتشابهه وعملت بمحكمه، وأحللت حلاله وحرمت حرامه-، أو عليك: حيث يقودك القرآن يوم القيامة، فيزج بمن قرأه فخالف ما دل عليه من حق الله -جل وعلا- إن لم يغفر الله -جل وعلا- ويصفح، فيزج بصاحبه إلى النار.

القرآن إما لك أو عليك، فطوبى لمن كان القرآن حجة له، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: حجة لك أي: يحاج لك، وهذا جاء في أحاديث أخر كقوله -عليه الصلاة والسلام-: يؤتى بالقرآن يوم القيامة تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان -أو قال: غيايتان أو فرقان من طير صواف- تحاجان عن صاحبها .

فالقرآن حجة لك أو عليك؛ فلهذا يعظم القرآن عند من عمل به، ويضعف القرآن عند من تركه تلاوة وعملا.

كل الناس يغدو الغدو: هو السير في أول الصباح، والرواح: الرجوع في آخر النهار، قال: كل الناس يغدو -يعني: صباحا- فبائع نفسه فمعتقها بائع نفسه فمعتقها يعني: لله -جل وعلا- باع نفسه فلم يسلط عليها الهوى ولم يعبدها للشيطان بل جعلها على ما يحب الله -جل وعلا- ويرضى، فأعتقها ذلك اليوم.

قال: أو موبقها بأنه غدا فعمل بما لم يرض الله -جل وعلا- فخسر ذلك.

نختم بهذا الحديث، وأسأل الله -جل وعلا- أن يعلمني وإياكم العلم النافع، وأن يمن علينا بالعمل الصالح، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا، وإن شاء الله تلتزمون معنا لنكمل هذه الأربعين النووية، غدا نطيل -إن شاء الله- قليلا، يعني: ربع ساعة زيادة، أو شيء حتى ننهيها -إن شاء الله-.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين.

شاعرة الحرمان
10-02-2006, 05:32 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

وعن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.

يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه رواه مسلم


قال -جل وعلا-: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي والتحريم عند أهل السنة والجماعة أن يحرم الله -جل وعلا- ما شاء على نفسه أو على خلقه، فالوجوب والتحريم والحق يصح عندهم أن يجعلها الله -جل وعلا- على نفسه، فيحق حقا على نفسه، ويوجب واجبا على نفسه، ويحرم أشياء على نفسه، وهذه كلها جاءت بها الأدلة.

فالله -جل وعلا- أحق حقا على نفسه في بعض الأشياء: حق العباد على الله ألا يعذب من مات لا يشرك بالله شيئا، وحرم أشياء على نفسه، ومنها الظلم كما في هذا الحديث، وهذا هو الذي يقرر في مذهب أهل السنة والجماعة، أما غيرهم فإنهم يجعلون الله -جل وعلا- منزها عن أن يحرم عليه شيء، أو أن يجب عليه شيء.

والذي حرم على الله هو الله -جل وعلا-، وهو -سبحانه- يحق من الحق على نفسه ما شاء، ويوجب على نفسه ما شاء، ويحرم على نفسه ما شاء، وهذا بما يوافق صفات المولى -جل وعلا- ويوافق حكمته، وما يشاؤه في بريته، فالله -سبحانه- حرم الظلم على نفسه، ومعنى كونه حرم الظلم على نفسه أي: منع نفسه -جل وعلا- من أن يظلم أحدا شيئا.

وفي القرآن نصوص كثيرة فيها أن الله -سبحانه وتعالى- لا يظلم الناس شيئا، وأنه -جل وعلا- لم يرد الظلم، ولم يختر الظلم على العباد كما قال -سبحانه-: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وقال -جل وعلا-: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ وقال -سبحانه-: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ وقال -جل وعلا- أيضا: فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا والآيات في هذا كثيرة متنوعة: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وهكذا.

فالله -جل وعلا- وصف نفسه بأنه لا يظلم أحدا شيئا، وأن الظلم ليس إليه، وأنه لا يريد الظلم -سبحانه وتعالى-، والظلم المنفي عن الله -جل وعلا- هو الظلم الذي يفسر بأنه: وضع الأمور في غير مواضعها؛ لأن الظلم في اللغة بأن يوضع الشيء في غير موضعه.

ولهذا قيل للحليب الذي خلط بلبن حتى يروب، فخلط قبل أن يبلغ ما يصلح به قيل له: ظليم، يعني: أنه ظلم حيث وضع الخلط في غير موضعه وقبل أوانه، مثل ما قال الشاعر:

وقائلـة ظلمـت لكـم سـقائي

وهل يخفى على العكب الظليم



ومنه أيضا سميت الأرض التي حفرت لاستخراج ماء وليست بذات ماء قيل لها: مظلومة، كقول الشاعر وهو من شواهد النحو المعروفة:

إلَّا الأَواري لأْيًا ما أُبَيِّنُها

والنُؤي كالحَوضِ في المظلومةِ الجَلد



المقصود: أن هذه المادة في اللغة دائرة على وضع الشيء في غير موضعه اللائق به، وغير هذا التفسير كثير، فالمعتزلة يفسرون الظلم بأنواع، والأشاعرة يفسرون الظلم بأنواع، وعند أهل السنة هذا هو تعريف الظلم، فقد قال بعضهم: إن الظلم هو التصرف في ملك الغير أو في اختصاصه بغير إذنه.

وهذا نوع من وضع الشيء في غير موضعه، وليس هو بتعريف للظلم؛ ولهذا يورد عليه أشياء في بحث معروف في القدر في مبحث الظلم وفي اللغة.

المقصود من هذا أن الله -جل وعلا- قال: إني حرمت الظلم على نفسي يعني: حرمت أن أضع شيئا في غير موضعه اللائق به، على نفسي منعت نفسي من ذلك. وهذا يدل على أن الله -جل وعلا- لو أراد إنفاد وضع الشيء في غير موضعه لكان له ذلك -سبحانه- وكان قادرا عليه؛ لأن الله قال: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا فهو -سبحانه- لم يرد ذلك.

وهذا الحديث أيضا دال على أنه قادر على أن يفعل، ولكنه حرم ذلك على نفسه، ومنع نفسه من ذلك، وهذا من كرمه -جل وعلا- وإحسانه وفضله وإنعامه ومزيد منته على عباده، قال -جل وعلا- هنا: إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا .

الله -جل وعلا- حرم الظلم على نفسه، وجعل الظلم بين العباد محرما؛ لأنه سبحانه يحب العدل وقد أقام السماوات والأرض على العدل، كما قرر أهل العلم أن السماوات والأرض قامت بالعدل، ولا يصلح لها إلا العدل، والعدل هو ضد الظلم؛ لأن العدل وضع الشيء في موضعه، والظلم وضع الشيء في غير موضعه.

فالله -سبحانه- أجرى ملكوته وأجرى خلقه على العدل، وهو وضع الأشياء في مواضعها وعلى الحكمة وهي: وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، الموافقة للغايات المحمودة منها. فتحصل من هذا أن الله -جل وعلا- يحب العدل ويأمر به كما قال -سبحانه-: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى .

والله -سبحانه- حرم الظلم كما في هذا الحديث، وفي آيات كثيرة مر معك بعضها، فإذا تبين ذلك فإن الله -سبحانه- جعل الظلم بين العباد محرما فقال: فلا تظالموا وهنا نظر أهل العلم في سبب قوله: إني حرمت الظلم على نفسي لأنه جعل بعدها: وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا وهذا فيه بحث واسع في أثر أسماء الله -جل وعلا- وصفاته التي اتصف بها -سبحانه- على بريته.

فالأسماء والصفات لها آثار في الملكوت، آثار في الشريعة،آثار في أفعال الله -جل وعلا- في بريته، وهذا نوع من هذه الآثار وهو أنه -سبحانه- لما أقام ملكه على العدل، وحرم الظلم على نفسه -أمر عباده بالعدل، وحرم الظلم فيما بينهم، والعباد مكلفون فإذا وقع منهم ظلم كانوا غير ممثلين لمراد الله الشرعي، وإن كانوا غير خارجين على مراد الله الكوني ؛ فلهذا يكون الله -جل وعلا- قد توعدهم إذ ظلموا، وقد نهاهم عن الظلم.

فإذن الظلم بأنواعه محرم، والظلم درجات يجمعها مرتبتان: الأولى: ظلم النفس، وظلم النفس قسمان: ظلم النفس بالشرك، وهو ظلم في حق الله -جل وعلا-؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها، في غير من تصلح له، المشرك، فكل مشرك ظالم لنفسه كما قال -جل وعلا-: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ .

والقسم الثاني: من ظلم النفس أن يظلم النفس، بأن يعرضها من العذاب والبلاء بما لا يصلح لها، وهذا ظلم من العبد لنفسه بأي شيء؟ بارتكاب الحرام والتفريط فيما أوجب الله -جل وعلا- وعدم أداء الحقوق، فهذا ظلم للنفس لما ؟ لأن من حق نفسك عليك أن تسعدها في الدنيا والآخرة، فإذا عرضتها للمعصية فقد ظلمتها؛ لأنك لم تجعلها سعيدة بل جعلتها معرضة لعذاب الله -جل جلاله-.

والمرتبة الثانية: ظلم العباد، وظلم العباد معناه التفريط، أو تضييع حقوقهم بعدم أداء الحق الذي أوجبه الله -جل وعلا- لهم، فمن فرط في حق والديه فقد ظلمهم، ومن فرط في حق أهله فقد ظلمهم، يعني: لم يكن معهم على الأمر الشرعي، بل ارتكب محرما أو فرط في واجب فقد ظلمهم، ومن اعتدى على أموال الناس أو على أعراضهم أو على أنفسهم أو على ما يختصون به فقد ظلمهم، وهذا كله محرم.

فإذن الظلم بأنواعه حرام، ولا يجوز شيء من الظلم -يعني: أن يظلم أحدُ أحدا شيئا- وإنما يأخذ الحق الذي له، قال -جل وعلا- بعد ذلك: فلا تظالموا -يعني: لا يظلم بعضكم بعضا-

يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم كلكم ضال يعني: أن الأصل في الإنسان أنه على الضلالة، الأصل في الإنسان من حيث الجنس أنه ظلوم وجهول، وهما سببا الضلال، قال -جل وعلا-: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا .

فالأمانة هي أمانة التكليف، ولما كان الإنسان ظلوما جهولا كان الأكثر فيه أن يكون ضالا؛ ولهذا أكثر الناس ضالون، وهذا جاء في القرآن في نصوص كثيرة، قوله هنا: كلكم ضال إلا من هديته يدل على أن الأمر الغالب في عباد الله أنهم ضالون إلا من من الله -جل وعلا- عليه بالهداية، وهذه الهداية تطلب من الله -جل وعلا- قال: فاستهدوني أهدكم يعني: اطلبوا مني الهداية أهدكم إليها.

وهذا يدل على رغبة ابن آدم في الهداية إن طلبها من الله -جل وعلا- فلا بد من ابن آدم أن يسعى في أسباب الهداية، فإذا رغب فيها وفقه الله -جل وعلا-، وهذا مرتبط بمسألة عظيمة من مسائل القدر، وهي أن الله -جل وعلا- يعامل عباده بالعدل، وخص طائفة منهم بالتوفيق، وهو أنه يعينهم على ما فيه رضاه -سبحانه وتعالى-: كلكم ضال وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى يعني: كان قبل البعثة ضال فهداه إلى الطريق: كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يعني: اطلبوا مني الهداية أهدكم إليها.

الهداية يطلبها كل أحد: الكامل -يعني: السابق بالخيرات-، والمقتصد، والظالم لنفسه، كل ينبغي عليه بل يجب عليه أن يطلب الهداية من الله -جل وعلا-؛ لهذا فرض الله -جل وعلا- في الصلاة سورة الفاتحة، ومن أعظم ما فيها قوله يعني: من الدعاء قوله -جل وعلا-: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فطلب الهداية للصراط المستقيم.

هذا من أعظم المسائل وأجلها، يعني: أعظم ما تطلبه من الله -جل وعلا- أن تطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم، والهداية مرتبتان: هداية إلى الطريق، بمعنى الإرشاد إليه والتوفيق له، والهداية بمعنى الإرشاد منها شيء قد جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام.

فهداية الدلالة والإرشاد تمت وقامت، ومنها الهداية: هداية الدلالة والإرشاد التي تسأل الله -جل وعلا- أن يعطيك إياها، أن تكون مرشدا إليها؛ لأن الالتفات إلى الإرشاد نوع من الاهتداء، فهداية النبي -صلى الله عليه وسلم- والهداية التي في القرآن موجودة بين ظهراني المسلمين لم يفقد منها شيء ولله الحمد، لكن من يوفق إلى أن يرشد إلى هذه الهداية؟

فإذن المرتبة الأولى: هداية الدلالة والإرشاد، وليست هي الهداية التي بمعنى أن تهدي غيرك، هذه الهداية التي هي طلب الهداية مرتبتان: هداية الدلالة والإرشاد، يعني: أن تطلب من الله -جل وعلا- أن يدلك ويرشدك على أنواع الهداية التي جاء بها المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ومنه أيضا التوفيق لها، فإذا دللت عليها فتسأل الله أن يوفقك لاتباعها، هذه واحدة، ويدخل في ذلك قصد الإسلام، ويدخل في ذلك الهداية إلى شيء معين منه.

والنوع الثاني أو المرتبة الثانية: الهداية إلى تفاصيل الإيمان والإسلام، وما يحب الله -جل وعلا- ويرضى؛ لأن تفاصيل الإيمان كثيرة، ولأن تفاصيل الإسلام كثيرة؛ ولأن تفاصيل ما يحب الله -جل وعلا- ويرضاه، وتفاصيل ما يسخطه الله -جل وعلا ويأباه كثيرة متنوعة.

فكونك تسأل الرب -جل وعلا- أن يهديك هذا خروج من نوع من أنواع الضلالة؛ لأن عدم المعرفة عدم العلم بما يحب الله وما به الهداية هذا نوع من البعد عن الصراط، المقصود أن هذا النوع من الهداية تطلب الله -جل وعلا- أن يهديك إلى تفاصيل الصراط، تفاصيل الإيمان، تفاصيل الإسلام، تفاصيل الاعتقاد؛ حتى تعلمه فتعمل به فتكون مرتبتك عند الله -جل وعلا- أعلى، قال -جل وعلا-: يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم وهذا من أعظم المطالب، نسأل الله -جل وعلا- أن يهدينا سواء السبيل.

قال: يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم الرزاق هو الله -سبحانه وتعالى- والرزق منه، والأرزاق بيده يصرفها كيف يشاء، فهو الذي إذا فتح رحمة فلا ممسك لها كما قال في فاتحة سورة فاطر: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ .

ومن ذلك الأرزاق التي تسد بها الجوارح، فقال -جل وعلا-: كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم وإطعام الجائع ورزق الفقير وأشباه ذلك هذه من سأل الله -جل وعلا- إياها فإن الله -سبحانه- يعطيه، سواء أكان كافرا أم كان مسلما، أكان عاصيا أم كان صالحا؛ لأن ذلك من أنواع الربوبية، من آثار الربوبية.

وربوبية الله -جل وعلا- غير خاصة بالمسلم دون الكافر، أو بالصالح دون الطالح، فالجميع سواء في تعرضهم لآثار عطاء الله -جل وعلا- بإفراد ربوبيته، فيرزق -سبحانه وتعالى- الجميع ويهب الأولاد للجميع، ويجيب دعوة المضطر من الجميع، وهكذا في إفراد الربوية، فقوله -سبحانه-: يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم من استطعم الله -جل وعلا- وسأله الطعام، سأله الرزق فإن الله -جل وعلا- قد يجيب دعاءه.

قال: يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم وهذا على نحو ما سبق، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم إنكم تخطئون بالليل والنهار، الخطأ هنا بمعنى الإثم؛ لأن الخطأ الذي هو بمعنى الخطأ، أو عدم التعمد هذا معفو عنه، وهنا قال: إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا .

فالخطيئة المقصود بـ "تخطئون" أي: تعملون بالخطايا، تعملون الخطيئة، وهذا معناه العمل بالإثم، وهذا يغفر بالاستغفار والتوبة والإنابة، فليس المراد طبعا الخطأ؛ لأن الله -جل وعلا- عفا عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، كما قال -سبحانه- في آخر سورة البقرة: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا .

قال: فاستغفروني وأنا أغفر الذنوب جميعا. هذا مقيد بما هو غير الشرك، أما الشرك فإن الله -جل وعلا- لا يغفره إلا لمن تاب وأسلم، أما غير الشرك مما هو دونه فإن الله -جل وعلا- يغفره -سبحانه وتعالى- إذا شاء أو لمن تاب.

قال -سبحانه- في آخر سورة الزمر: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا أجمع المفسرون من الصحابة ومن بعدهم أنها في التائبين، فـ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا لمن تاب، وقوله في سورة النساء: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ "لا يغفر أن يشرك به الشرك" غير داخل في المغفرة، مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ يعني: في حق غير التائب.

فحصل لنا أن من تاب تاب الله عليه، فيغفر الله ذنبه أيا كان الشرك أو ما دونه، ومن لم يتب فإن كان مشركا فإن الله لا يغفر الشرك، وإن كان ذنبه ما دون الشرك فإنه تحت المشيئة، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بذنبه، فإذن قوله هنا: وأنا أغفر الذنوب جميعا مقيد بما ذكرت لك.

فاستغفروني أغفر لكم يعني: اطلبوا مني المغفرة فأنا أغفر ذلك لكم، الحقيقة الحديث طويل، وكل كلمة تحتاج إلى بيان وإلى تفصيل، فلعلي أجمل فيما يأتي: يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني وهذا لأجل كمال الغنى، كمال غنى المولى -جل وعلا- فإن الله -سبحانه- ذو الكمال في أسمائه وصفاته، ومن أسمائه الغني، ومن صفاته الغنى، فهو -سبحانه- غني عن العباد ولن يبلغوا نفعه ولن يبلغوا ضره -سبحانه وتعالى- بل هو الغني عن خلقه أجمعين.

وكما قال هنا: إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني بل هو -سبحانه- أجل وأعظم من أن يؤثر العباد فيه نفعا أو ضرا، بل هم المحتاجون إليه المفتقرون إليه من جميع الجهات.

قال: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم -ما زاد ذلك في ملكي شيئا يعني: أن تقوى العباد ليس المنتفع منها الرب -جل وعلا- بل هم المنتفعون، فهم المحتاجون أن يتقوا الله -سبحانه وتعالى- وهم المحتاجون أن يطيعوا ربهم -سبحانه- وهم المحتاجون أن يتقربوا إليه، وأن يتذللوا بين يديه، وأن يُروا الله -جل وعلا- من أنفسهم خيرا.

وأما الله -سبحانه وتعالى- فهو الغني عن عباده الذي لا يحتاج إليهم؛ إن الله -سبحانه وتعالى- هو الكامل في صفاته، الكامل في أسمائه الذي لا يحتاج إلى أحد من خلقه، تعالى الله وتقدس عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

قال: يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم -ما نقص ذلك من ملكي شيئا الذي يعصي الله -جل وعلا- لا يضر إلا نفسه، ولا يحتاج الله -جل وعلا- إلى طاعته، ولا يضره أن يعصيه -سبحانه وتعالى- وهذا يعظم به العبد الرغب في الله -جل وعلا-؛ لأنه -سبحانه- هو ذو الفضل والإحسان، وذو المنة والإكرام، والعباد هم المحتاجون إليه.

قال: يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منهم مسألته -ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر المخيط المراد به: الإبرة السميكة إذا أدخلت في البحر ثم أخرجت فإنها لا تأخذ من ماء البحر شيئا.

فلو أن أول العباد وآخرهم وإنسهم وجنهم سألوا الله -جل وعلا- في صعيد واحد سأل كل واحد مسألته، فأعطى الله كل واحد ما سأل -ما نقص ذلك من ملك الله -جل وعلا- شيئا إلا كما ينقص المخيط، كما تنقص الإبرة من الحديد إذا أدخلت في البحر، ثم خرجت -فإنها لا تنقص من البحر شيئا يذكر، وهكذا؛ لأن ملك الله -جل وعلا- واسع، ولأن ملكوته عظيم، وحاجات العباد ليست بشيء في جنب ملكوت الله -جل وعلا-.

فإنهم يعطون مما في الأرض -يعني: بعض ما في الأرض يكفي العباد أجمعين- وملك الله -جل وعلا- واسع، وما الأرض والسماوات السبع في كرسي الرحمن إلا كدراهم ألقيت في ترس -يعني: أنها صغيرة جدا-، فحاجات العباد متعلقة بالأرض وما حولها -يعني: والسماء التي تقرب منهم- وهذا إذا أعطي كل أحد ما سأل فإنه يعطى مما في الأرض، وهذا شيء يسير جدا بالنسبة لما في الأرض، فكيف بالنسبة إلى ملكوت الله جل وعلا.

قال -جل وعلا- بعد ذلك: يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها إنما هي أعمالكم -يعني: أن المقصود من إيجادكم الابتلاء والتكليف- فإنما الأمر راجع إلى أعمالكم، لم يخلق الله -جل وعلا- الخلق لأنهم سينفعوه، أو لأنه يخشى منهم أن يضروه، أو لأنه -سبحانه- محتاج أن يعطيهم، بل إنما هو الابتلاء، ابتلاؤهم بهذا التكليف بهذا الأمر العظيم، وهو عبادته سبحانه.

كما قال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ وكما قال -جل وعلا-: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ .

فغنى الله -سبحانه وتعالى- عن عباده أعظم الغنى، وهم محتاجون إليه، والابتلاء حصل بخلقهم، فابتلى الله العباد بحياتهم، ونتيجة هذا الابتلاء أن أعمالهم ستحصى: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم وقوله -جل وعلا-: "أحصيها" الإحصاء بمعنى العد التفصيلي والحفظ؛ لأن الإحصاء له مراتب: فمنها العد التفصيلي، ومنها الحفظ وعدم التضييع، كما قال -جل وعلا-: لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا .

وكما قال -جل وعلا-: وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا والإحصاء يشمل معرفة التفاصيل وكتابة ذلك، ويشمل أيضا الحفظ وعدم التضييع: فإنما هي أعمالكم أحصيها يعني تكتب عليكم بتفاصيلها، وأعرفكم إياها بتفاصيلها، وأحفظها لكم فلا تضيع

ثم أوفيكم إياها الحسنات بالحسنات، والسيئات بما يحكم الله -جل وعلا- فيه، فمن فعل السيئات فهو على خطر عظيم، ومن فعل الحسنات فهو على رجاء أن يكون من الناجين.

قال: فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأن العبد هو الحسيب على نفسه: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ كل نفس تعلم ما تعمل وصوابها وخطأها، ولو ألقت المعاذير: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ قال: فمن وجد خيرا فليحمد الله يعني: فليثن على الله -جل وعلا- بذلك؛ لأنه هو الذي أعانه.

ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه؛ لأن العبد هو الذي جنى على نفسه، والله -سبحانه- أقام الحجة وبين المحجة، وسلك بنا السبيل الأقوم، فالأمر واضح والعباد هم الذين يجنون على نفسهم.

اللهم، اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت .



والله اعلم ..

شاعرة الحرمان
10-02-2006, 05:34 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته ..

وعن أبي ذر -رضي الله عنه أيضا-: أن ناسا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون: إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، فقالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ كذلك لو وضعها في الحلال كان له أجر رواه مسلم.
--------------------------------------------------------------------------------


وهذا الحديث عن أبي ذر أيضا: أن ناسا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا للنبي -عليه الصلاة والسلام-: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور ذهب أهل الدثور يعني: أن أهل الغنى ذهبوا بالأجر عند الله -جل وعلا-؛ لأن لهم أموالا يتصدقون بها، والصدقة أمرها عظيم.

قالوا ذهب أهل الدثور بالأجور: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم يعني: أن الله -جل وعلا- ميزهم بأنهم يتصدقون، فيصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، لكن تميزوا عنا بالصدقة، فذهب أهل الدثور بأجور الصدقة.

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- بين لهم أن معنى الصدقة واسع، فقال -عليه الصلاة والسلام-: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به وهذا فيه الحث على سماع ما جعل الله -جل وعلا- للفقراء، بل ولعامة المسلمين الأغنياء والفقراء جميعا من أنواع الصدقات التي لا تدخل في الصدقات المالية.

وهذا مبني على معنى الصدقة في الشريعة؛ فإن الصدقة في الشريعة ليست هي الصدقة بالمال، والصدقة بالمال نوع من أنواع الصدقة، فالصدقة إيصال الخير، تعريف الصدقة: إيصال الخير والنفع للغير؛ ولهذا يوصف الله -جل وعلا- بأنه متصدق على عباده.

كما ثبت في صحيح مسلم بن الحجاج -رحمه الله- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سألوه عن مسألة القصر في السفر قال: صدقة من الله قالوا: يا رسول الله، هانحن قد أمنا، والله -جل وعلا- يقول في سورة النساء: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقد أمنا. فقال -عليه الصلاة والسلام-: صدقة من الله عليكم، فاقبلوا صدقته .

فالله -جل وعلا- يتصدق على عباده، بمعنى: يوصل الخير وما ينفعهم لهم، فالصدقة: إيصال الخير للغير، وقد يكون هذا الإيصال متعديا، وقد يكون لازما، يعني: قد يكون العبد يوصل الخير لنفسه فيكون متصدقا، ويوصل الخير لغيره فيكون متصدقا على غيره.

فالصدقة معناها في الشريعة عام، ومنها الصدقة بالمال؛ فإنها إيصال الخير والنفع للغير، قال -عليه الصلاة والسلام-: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون لأن معنى الصدقة عام: إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة .

مثل -عليه الصلاة والسلام- بهذه الأربع لأمرين:

الأول: أنها من أنواع الذكر اللساني، فمثل بها على أنواع الذكر الأخرى؛ لأن هذه أفضل الذكر، كما ثبت في الصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر .

فهذه الأربع هي أحب الكلام إلى الله، فهي أعظم ما تتقرب به إلى الله -جل وعلا- من الذكر، وتتصدق به على نفسك، فقال: إن بكل تسبيحة صدقة لأن فيها الأجر العظيم، فتصل بالتسبيحة نفسك بأنواع الخير والأجر.

كذلك التحميد والتهليل والتكبير، ثم انتقل -عليه الصلاة والسلام- إلى نوع من الصدقة متعد، فقال: وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة هذا تمثيل لأنواع الصدقات التي فيها التعدي النفع، فذكر الأمر بالمعروف، والمعروف: هو ما علم حسنه، والأمر به في الشريعة، فما عرف في الشريعة حسنه، فهو معروف.

والمنكر -ضده-: ما عرف في الشريعة سوءه ونكارته، فمن أمر بما عرف في الشريعة حسنه فقد أمر بالمعروف، وأعلاه التوحيد، ومن نهى عن المنكر -وهو ما أنكر في الشريعة- وأعلاه الشرك بالله -جل وعلا- فقد نهى عن المنكر، فإذن كل أمر بمعروف صدقة لك، وكل نهي عن المنكر صدقة.

وتعليم العلم يدخل في ذلك، فهو من أنواع الصدقات، فمن لازم العلم تعلما وتعليما فإنه يتصدق في كل لحظة تمر عليه على نفسه، وكذلك على غيره؛ ولهذا أهل العلم أعظم الناس أجورا إن صلحت نياتهم.

قال: وفي بضع أحدكم صدقة البضع المراد به في اللغة بعض الشيء؛ لأن البضع والبعض فيها قلب "ب ض ع"، و"ب ع ض" يعني: البعض، والبضع مقلوبة هذه عن الأخرى، فمعنى البضع البعض، ولكنهم كنوا به عن بعض ابن آدم، وهو فرجه، وهذا من شريف الكلام؛ حيث يذكر ما يستحيا عن ذكره ولا يحسن ذكره في كلمات تدل عليه، ولا يكون لها وقع ينافي الأدب في السمع.

قال -عليه الصلاة والسلام-: وفي بضع أحدكم صدقة يعني: فيما يأتيه المرء بفرجه -وهو ذكر الرجل- صدقة، فاستغربوا؛ قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟! .

المراد بالشهوة هنا الماء، يعني: ماء الرجل الذي ينزله، يعني: المراد تمام الشهوة، ويكون له فيها أجر؟! يعني: المرء يأتي شهوته، وينزل ماءه، ويكون له بذلك أجر؟! فقال -عليه الصلاة والسلام-: أرأيتم لو وضعها -يعني: لو وضع الشهوة- في حرام .

والذي يوضع هو ماء؛ لهذا فسرت الشهوة هنا بأنها الماء، قال: أرأيتم لو وضعها في حرام وهذا يسمى استدلال العكس، أو قياس العكس.

لو وضعها في حرام أكان عليه وزر قالوا: بلى، فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر وهذا -يعني: أن ما يفعله المرء من هذه الأفعال التي هي من قبيل الشهوات- إذا أتى بها الحلال، وابتلى الله -جل وعلا- العبد بهذه الشهوة، فجعلها في الحلال، وباعد نفسه عن وضعها في الحرام -أنه يؤجر على ذلك، وهذا هو الظاهر.

واختلف أهل العلم في هذه المسألة: هل يؤجر بإتيانه الحلال بلا نية، أم يؤجر بإتيانه الحلال بنية؟ فقالت طائفة: هذه الشهوات التي ابتلى الله بها العبد إذا جعلها في الحلال فإنه يؤجر عليها بلا نية، على ظاهر هذا الحديث، وتنفعه النية العامة، وهي نية الطاعة نية الإسلام، فإنه بالإسلام يحصل له نية الطاعة لله -جل وعلا- فيما يأتي، وفيما يذر النية العامة، وهذا قول طائفة من أهل العلم.

وقال آخرون: هذا الحديث محمول على غيره من الأحاديث، وهو أنه يؤجر إذا صرف نفسه عن الحرام إلى الحلال بنية، فإذا صرف نفسه عن مواقعة الزنا إلى مواقعة الحلال بنية -فإنه يؤجر على ذلك؛ لأن الأحاديث الأخر، والقواعد العامة، وكذلك بعض الأيات -تدل على أنه إنما يؤجر على ما يبتغى به وجه الله -جل وعلا-.

قد ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها وأيضا في أية النساء قال -جل وعلا-: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا فدل في الآية على إشتراط ابتغاء مرضاة الله، ودل في الحديث أيضا على أن النفقة إذا ابتغي بها وجه الله -فإنه يؤجر عليها في العبد.

فحمل أكثر أهل العلم هذا الظاهر من الحديث على غيره من النصوص مما يكون العبد به منصرفا عن الحرام إلى الحلال بنية، فإذا قام في قلبه أنه لن يأتي الحرام، بأن الله أباح له الحلال ليقتصر على الحلال دون الحرام -فإنه يؤجر على ما يأتي من الحلال، ويؤجر علي شهوته في هذه النية، وإنما الأعمال بالنيات.


في أمان الله