سبق أن مرت بالمملكة ظروف اقتصادية صعبة، وذلك إبّان حرب الخليج، واحتلال صدام للكويت، وانخفاض أسعار النفط، حتى إن موازنة الدولة كانت شهرية، وجرت مراجعة بعض المصروفات، وكاد كادر المعلمين أن يُراجَع تلك الفترة لولا موقف وزارة المعارف الحازم ذلك الوقت، وهي شهادة استدعتها ذاكرتي حين سمعتُ أخيراً كلاماً يدور حول مراجعة كادر المعلمين.
وقبل ذكر الموقف تحسن الإشارة إلى أن المعلمين كانوا قبل عام ١٤٠٢هـ يخضعون لسلم الوظائف الإدارية، ولهم بدل تدريس وكانت الوزارة تعاني من رفع كفاءتهم العلمية فهم ما بين خريجي معاهد المعلمين والكليات المتوسطة، والجامعات، وكانت ترقياتهم تشكل مشكلة للوزارة فهم يتطلعون للترقية كبقية موظفي الدولة كل أربع سنوات، وتتطلب ترقياتهم إحداث وظائف جديدة باستمرار، وقد أدى ذلك الإجراء إلى ضعف الإقبال على مهنة التعليم، فالوظيفة المكتبية أقل عبئاً، والمعلم مُلزمٌ بخمس ساعات عمل يومياً، يتنقل من فصلٍ لآخر ويحتاج لوقت إضافي، فلديه التحضير اليومي، ومراجعة واجبات الطلاب، ولا يمكن اختزال وقته في ساعة إنتاج كما يقول البعض.
وبناءً عليه رأت الوزارة إعداد كادرٍ خاص بالمعلمين، يشمل بدل التدريس، ويدفعهم للمزيد من التحصيل العلمي، فجعلت الكادر وفق مستويات فلا يمكن ترقيتهم من مستوى لآخر إلا بمؤهل علمي أعلى وترتب على ذلك زيادة الإقبال على مهنة التعليم، وحرص المعلمين وتدافعهم للرفع من كفاءتهم العلمية، لتتحقق لهم الترقيات من مستوى لأعلى، وكان الوزير الخويطر رحمه الله يُدرك معاناة المعلم فقد مارس التدريس في الجامعة قبل أن يكون وزيراً، ويعرف أن أستاذ الجامعة لا يترقى من درجة لأخرى إلا بالمزيد من التحصيل العلمي، ولهذا حين جاءت فكرة خفض الكادر وقفت الوزارة ووزيرها الدكتور الخويطر رحمه الله ضد هذا المقترح بقوة وحزم، وهذه هي الشهادة التي استدعتها ذاكرتي. وفي الأسبوع الأول من تعييني وكيلاً للوزارة بداية عام ١٤١٢هـ كان الوضع الاقتصادي للدولة صعباً، ووصل للوزارة برقية بشأن تشكيل لجنة عُليا لمراجعة كادر المعلمين برئاسة نائب وزير المالية، وعضوية وكلاء وزارات من وزارة المعارف، والرئاسة العامة لتعليم البنات والخدمة المدنية، وحين عرضتُ على الوزير الخويطر رحمه الله خطابَ تكليفي للمشاركة مع اللجنة، وبيَّنت له أن الوزارة لا ترى المساس بالكادر كان رحمه الله أكثر حزماً وقال لا تشارك أنت في الاجتماع ورفض توقيع الخطاب.
وقال: «هذا الكادر ميزة للمعلمين، والمعلمون هم أساس التعليم، والدولة تنشد تطوير التعليم والرفع من كفاءته فكيف نسمح بالتعرض لكادرٍ تعبت عليه الوزارة حتى صدر؟ وهناك بدائل أُخرى يمكن اتخاذها للتوفير»، وخرجتُ من مكتبه وقد فهمت منه أنه سيُراجع الملك فهد رحمه الله حول الموضوع، وهاتفت نائب وزير المالية، وأخبرتُه بتعذر مشاركة الوزارة وتوقفت اللجنة، واستمر كادر المعلمين كما هو، وربما يستغرب البعض موقف الخويطر وهو المشهور بالحزم في الأمور المالية. لقد كان رحمه الله يرى ترشيد الإنفاق في غير هذا المجال، عرضتُ عليه ذات مرة الاشتراك في الصحف لكبار المسؤولين في الوزارة كما في الجهات الحكومية الأخرى، فقال إن صرف المبلغ في تدريب المعلمين خيرٌ من أن تشتري صحفاً للمسؤولين، وكان يرى أن يأخذ المعلم نصابه الكامل وعدم التوسع في فتح المدارس الصغيرة ذات الكلفة العالية. بعد أن تركتُ العمل في التعليم كنت ممن يزور الوزراء الجدد ويبارك لهم، وأكتب لهم عن فاتورة التعليم وتناميها، وأُذكِّرهُم أنني تقاعدت بداية عام ١٤١٩هـ وموازنة التعليم العام (للبنين والبنات) بلغت 45 بليوناً، وأنها صارت تزداد بقوة ونخشى أن تضطر الوزارة لإجراءات تضر بالتعليم ولا بد من تفعيل ما لدى الوزارة من إجراءات للحد من تصاعد الفاتورة، مثل زيادة نصاب المعلم حصة واحدة ليصبح 25 حصة أسبوعياً بمعدل خمس حصص يومياً، وتعديل الخطة في المرحلة الابتدائية إلى 25 حصة أسبوعياً، وضم بعض المدارس الصغيرة التي تصل كلفة الطالب فيها إلى قرابة 100 ألف ريال.
إن مثل هذه الإجراءات اليسيرة توفر الكثير وتوقف نمو فاتورة التعليم التي وصلت في التعليم العام لأكثر من 100 بليون، وهناك إجراءات أخرى يمكن اتخاذها للترشيد من دون المساس بمستحقات المعلمين المالية فهم بُناة الثروة البشرية وهم صُناع المستقبل، فاكسبوا رضاهم ، وركزوا عليهم إن أردتم نهضة الوطن.
د. عبدالعزيز الثنيان
وكيل سابق لوزارة التعليم